د. رضا محمد عريضة
عندما نقرأ في تاريخ التقدم الإنساني، نجد أن وقت الفراغ، كان يمثّل المظلة النفسية الاجتماعية الوادعة، التي تتيح للفكر الإنساني قدراً أوسع وأعمق على ابتكار الجديد، وتطوير ما هو كائن، وتحسين ما هو موجود والبحث عن صورة أفضل للحياة.
وحالياً.. وقت الفراغ أكثر الأوقات ملاءمة لتحقيق الاسترخاء الفكري، أو هشاشة الضبط القيمي، وبالتالي فهو أنسب الأوقات لنفاذ الطرائف والبدائع إلى النفس، وهنا تكمن خطورته، إذا ما تركت هذه النفوس والعقول الخاوية، أمام الطوفان الوافد بإلحاح من المجتمع الغربي، في مجالات الثقافة، والفن والأخلاق، والأزياء، والآداب وغيرها. وعبر وسائل بالغة الجاذبية، عبر الصحف والمجلات الأنيقة، أو عبر الإذاعة والتلفزيون، وعبر السينما وأجهزة الفيديو، والشبكة العنكبوتية، وعبر شبكات الإعلان والدعاية التي تحاصر الإنسان أينما ذهب. هذا يثير تساؤلاً يضعنا أمام مسؤولياتنا الجسيمة نحو الأطفال والمراهقين والشباب ويتمثّل هذا التساؤل في ما هي القيمة الحقيقية لهذا الكم الهائل من الرسائل الثقافية المتدفقة نحو كل فئات المجتمع العربي الإسلامي؟
ولأن القيم المعرفية تمثّل أهمية بالغة في تقدم المجتمعات... فقد أصبحت المعرفة تمثّل الجانب الأكبر في تقدير قيمة ثمن منتج ما وليس المواد الخام التي استخدمت في عملية تصنيع هذا المنتج، وذلك لأن تكنولوجيا العصر تعتمد على نتائج العقل البشري وعلى حصيلة الخبرة والمعرفة والتقنية.
فالعقل البشري هو الذي أصبح ينظر إليه باعتباره قوام الثورة التكنولوجية الراهنة، لذا فقد بات من المقبول بصفة عامة أن مواكبة هذا التطور الجديد الحادث في طبيعة العمليات الإنتاجية إنما تستلزم بالدرجة الأولى استثماراً رئيساً في نوعيات معينة من المجالات، وبالذات تلك التي تتعلق بأمور التعليم وتطوير المهارات البشرية وتنمية وإدارة القدرات لتستطيع التعامل مع مخرجات هذه الثورة والتكيف مع نتائجها.
وقد يروعنا في يوم ما تلك المسافة التي تفصلنا عن المجتمعات المتقدمة، ويروعنا أكثر أن هذه المسافات تتزايد باستمرار، ولذا فإننا ما لم نحث الخطى للحاق بالدول المتقدمة، فإننا لن نبقى متخلفين فحسب، بل إن تخلفنا سوف يزداد.. فينبغي أن نهتم بالمعرفة في مختلف نواحيها وأساليب توصيلها إلى الشباب وكيفية استثمارها إيجابياً.
ولأن التغير سُنّة من سنن الحياة، فالمجتمع يتغير شأنه في ذلك شأن كل كأن حي، فالمجتمع الذي لا يتغير محكوم عليه بالفناء، لأن التغير صفة أساسية من صفات الأحياء. والتغير الذي نقصده هنا هو التغيير إلى الأفضل والأحسن، وإذا صح أن (الأفضل) و(الأحسن) يختلفان من حيث المفهوم من مجتمع إلى آخر، فإن حضارة اليوم قربت بين المفاهيم ووحدتها.. والمجتمع - كالفرد - ميال إلى حفظ بقائه والمحافظة على مفاهيمه وقيمة ومثله، والمجتمع الذي يهيئ الفرد للحفاظ على بقائه الخاص يتهيأ من خلاله للحفاظ على بقائه وبقاء قيمه ومثله ومفاهيمه.
والمجتمع الذي لا يقرأ حساباً لنفسية الشباب ولا يعرف نزعاته واتجاهاته وخصوصياته يدفع بنفسه قدماً إلى الفناء، ويفوت على نفسه في كل حين الفرصة ليبني كيانه على أسس سليمة. كما أن مجتمعاً يقوده شبابه فيتساهل معه ويقبل منه تجاوزاً للأخلاق المألوفة وتحدياً للقيم المعروفة وتهاوناً بالقيم والعقائد التي يحترمها عامة الناس ويقل احترامه للقوانين التي يرضخ لها كل الناس، فهو مجتمع مريض دبّ في جسمه المرض وبدأ يأكل لحمه الهلاك، ونخر في عظامه السوس فالطاعة في دون خوف ضرورية، والحفاظ على الثوابت الصلبة في دون تعصب واجب، فلا يحجب عنا التقدم أصالتنا، ولا تشوش علينا البدع استقرارنا، ولا يمكن أبداً أن ينقلب التطور والتحضر إلى تفسخ وتميع وانحلال.. فبقدر تفهم المجتمع لشبابه والتسامح معه بقدر وقفته الحازمة ضد تياراته الجارفة التي يستلهمها من قصصه وأفلامه ومحادثاته، وعسى أن نرى في الحاضر خير شاهد.
مثلاً: فقد قلّ معدل الزمن الذي يخصصه الشباب وما دونهم لقراءة الكتب والمجلات المتخصصة عما كان عليه في الماضي.. كما أنه يستمع من الراديو إلى البرامج الهادفة أقل، ولكنه يشاهد عدداً كبيراً من الفضائيات التي تمثّل معظمها كباريهات تليفزيونية تخاطب الغرائز.. وهو تغير في المادة التي يستقبلها الشباب عن طريق الوسائل الثقافية إذا قورنت بمثيلتها قبل ظهور التليفزيون.. لذا لا غرابة في أن يطلق البعض أن [الإنسان حيوان تليفزيوني].
والمعرفة.. هي إدراك الإنسان للعلاقات المختلفة بين الأشياء والأحداث والمعاني المختلفة التي تتضمنها هذه العلاقات، والتي تحدد وظائف هذه الأشياء والأحداث في حياة الإنسان المتغيرة.. فالمعرفة تمثّل مجموعة من الإمكانيات التي تحفز الناس على معاودة بذل جهود جديدة تدفعهم إلى العمل على تحقيق أمور جديدة، كما أنها تعني الوسائل المادية والمناهج الفكرية التي توجه التغيير الذي لا بد أن يحدث.
وللمعرفة وظيفة اجتماعية.. فالمعارف والاتجاهات والمفاهيم ليست نتاجاً عقلياً مطلقاً، وإنما هي نتاج متفاعل مع الزمان والمكان الذي يعيش فيه إنسان سواء كان فناناً أو عالماً أو أديباً أو صانعاً.. فأهم مصادر المعرفة وتكوين التصورات الفكرية تلك التي تنبثق من الواقع الاجتماعي، ووظيفة الإنسان أن يوجد العلاقات بين أنماط من الأفكار والمفاهيم والتصورات وبين الظروف الاجتماعية المختلفة التي تظهر فيها، فقد رصد [زكي نجيب محمود 1982) دراسة للباحث الأمريكي (ماكليلاند) توضح أهمية البعد المعرفي من خلال مواد القراءة، وتوصل فيها إلى أنه كلما ازدادت مواد القراءة التي تبعث على الأمل والعمل، جاءت النتيجة بعد ذلك بنحو عشرين عاماً، زيادة في النمو الاقتصادي والعكس كذلك صحيح، وتوصل أيضاً إلى أن البلاد التي تدهورت - إنما يرجع التدهور إلى أنها بالغت في الإشادة بالطرائق التقليدية في الفكر والسلوك.
ومصادر الثقافة الرئيسة هي (الأسرة - المدرسة - وسائل الإعلام)، ما زالت تعمل في مجموعها بأسلوب متناقض متعارض في كثير من الأحيان فما يكرسه البيت في وجدان الطفل تنفيه المدرسة، وما تؤكده المدرسة تهدمه وسائل الإعلام، فخرج الأبناء بثقافة مشوهة، محبطة، انعكست آثارها البعيدة على مستقبلهم ومع تفاقم الثورة المعرفية والعلمية أصبحت عملية استقراء المستقبل والاستعداد له، بل محاولة الإمساك به، ضرورة ملحة للسيطرة على المتغيرات المتلاحقة والمحافظة على كيان الأمم ووجودها الحضاري.
وهذا لا يتأتى دون دراسة الواقع المعرفي عند الشباب.. من خلال التعرف على ما يدركه من قيم معرفية (نظرية) مرغوب فيها أو عنها.. وذلك لأن التغيرات المعرفية والقيمية غالباً ما تكون دالة لأداءات سلوكية معينة - أكثر من أن تكون أسباباً لهذه الأداءات والتكوينات، والمعارف قد تخضع لإعادة تنظيم لكي تتسق مع السلوك - كما تستخدم لتفسير ذلك السلوك.
وقد أشار (ماسلو، وموارى)، إلى أن الحاجات المعرفية تتقابل والقيمة النظرية، وهي نوع من القيم، تجعل من يفضلها يسعى إلى الكشف عن الحقائق وبحث أوجه التشابه والاختلاف بين الظواهر، كما تؤدي به إلى أن يلاحظ ويفكر ويستدل، أي أن اهتمامات الفرد تركز على ما هو عقلي.. ولذا يوجد ارتباط بين الحاجات والقيم حيث يسعى ذوو الحاجات المعرفية إلى إشباعها من خلال تبني قيم ذات طبيعة نظرية تحث على المعرفة، كما أن الرغبة في المعرفة حاجة أصلية مستمدة من صميم الوجود الإنساني.
إلا أننا نشير إلى أن مفهوم المعرفة ليس مرادفاً لمفهوم العلم.. فالمعرفة أوسع حدوداً ومدلولاً، وأكثر شمولاً وامتداداً من العلم.. والمعرفة في شمولها تتضمن معارف غير علمية، لذا يمكن القول بأن كل علم معرفة وليس كل معرفة علماً والفرد يظل معرّضاً للخطأ والسلبية ما لم يعرف معرفة كافية وصادقة ومحددة في ظل أي نظام يعيش، وما لم يعرف وفق أي القيم والمعايير يسلك؟ والمهم في المعرفة.. ماذا يجب أن يعرف؟.. لكي لا يصل إلى حالة التنافر المعرفي التي تسبب حالة مؤلمة على المستوى النفسي لصاحبها.. فمثلاً: هناك فرق بين أن نعرف أي شيء عن الحياة الجنسية من خلال الإطار الديني والعلمي، وبين أن نعرفها من خلال المصادر الإباحية المخالفة لقيم ومعايير المجتمع.
وليس آخِراً: لكي يكون لنا إحساس حي بوجودنا، وقدرة على المشاركة الإيجابية في حضارة عصرنا، فلا بد لحاضرنا أن يبتلع ماضينا، ابتلاعاً ينقل ذلك الماضي من حالة كونه تحفة نتفرج عليها، وعبارات نرددها إلى حالة كونه غذاء للدماء في الشرايين، أي ينتقل الماضي من خارجنا إلى داخلنا ليصبح فينا ضميراً حاكما وموجهاً لسلوكنا، لا بمحاكاتنا لما قد كان محاكاة حرفية كما يقولون، بل بإبداعنا للجديد الذي يتناسب مع عصرنا، كما كان متناسباً مع عصرهم.
د. رضا محمد عريضة - أستاذ علم النفس الاجتماعي المساعد بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية