د. سليمان العنقري ">
نعم لم أستطع إيجاد عنوان لهذا المقال وهذا يحدث معي لأول مرة منذ أن بدأت الكتابة في الصحف ولمدة تتجاوز الثلاثين عاماً.
لقد حاولت مراراً ولكن دون جدوى رغم أن عناوين مقالاتي السابقة لم تكن تعجزني كثيراً ، فقد يكون العنوان هو منطلق المقالة أو قد يأتي بعد نهاية المقالة.. وهكذا دواليك إلا أني وفي هذا المقال عجزت فعلاً عن إيجاد عنوان مناسب له لا في بداية المقال ولا بعد استكماله، لذلك أعتذر من القارئ الكريم، ولعل قارئ كريم أو أكثر ممن عايش أو مر بنفس الظروف أو المناسبة التي سوف أتحدث عنها أقدر مني على اختيار العنوان المناسب، وفق ما يراه لمثل هذه المناسبة، وفق الحالة التي عايشها مع يقيني بتفاوت الرؤى.
على أية حال أقول إنه من السنن الإلهية والفطر الربانية التي فطر الله الناس عليها التزاوج بين مخلوقاته إنسهم وجنهم، بل كل ما يدبّ على وجه هذه البسيطة في البر والبحر حفظاً للنسل وعمارة للأرض.
قال تعالى في حق البشر: (وهو الذي خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة)، وكما قال جلّ شأنه: (وخلق الزوجين الذكر والأنثى) كما حثنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- على التزاوج فقال: «تزوجوا البكر الودود الولود فإني مكاثر بكم يوم القيامة»، كما قال عليه أفضل الصلاة والسلام: «من استطاع منكم الباءة فليتزوج... الخ».
هذه مقدمة بسيطة رأيت الدخول منها إلى موضوعي الأساسي، وهو زواج الأبناء والبنات، امتثالاً للفطرة الإلهية، وتحقيقاً للسنة المحمدية سنة الحياة.. ولا شك أن كل أب وأم في هذه الحياة يتمنيان أن تتزوج فلذات أكبادهما من البنات، ويوفقهن الله بمن يكملن معه النصف الثاني من الدين، وبالتالي رحلة العمر بسعادة وهناء فلا يتأخرن فيثقل عليهن طريق الوحدة المكبل بالرقابة الصارمة من مجتمع قاس لا يرحم، ولذلك يحرص الأبوان على التدقيق والتمحيص والسؤال عمن يتقدم لابنتهما ديناً وخلقاً وتوافقاً في جميع نواحي الحياة الدنيوية ليعبرا في حياتهما الزوجية إلى عش ترفرف عليه السعادة والمودة مما ينعكس إيجاباً على سعادة الأبوين وفرحهما.
وهنا يأتي الحديث عن مشاعر وأحاسيس الأبوين، حينما يزفان ابنهما أو ابنتهما إلى عش الزوجية، وما ينتابهما من تباين واضح في المشاعر والأحاسيس بين المناسبتين، أي بين زواج الابن وزواج البنت.. فزواج الابن ومنذ ليلة الزفاف يشعر الأب والأم بشيء من الفرح والزهو والابتسامة الكبيرة لشعورهما بأن ابنهما بلغ مبلغ الرجال واكتمل تكوينه رجلاً ليكمل دينه وما يتبع ذلك من استقلالية وفتح بيت جديد وخلفه تحمل اسم الأب وبالتالي اسم العائلة.
ولكن على الجانب الآخر يتغير الشعور وتتبدل الأحاسيس حينما تتزوج البنت.. فمنذ أول ليلة وهي ما يسمى (بليلة الزفاف أو الزواج) وحينما يتفرق الجمع وتروح السكرة وتأتي الفكرة، ويعود الأبوان إلى بيتهما سوف يصدمان بواقع مرير مختلف عن تلك المشاعر والأحاسيس تلك التي عاشاها حينما زفا ابنهما، فالزفة إلى عش الزوجية هي الزفة ولكن المشاعر غير المشاعر والأحاسيس غير الأحاسيس.. إذ إن الدموع وألم فراق البنت سوف تنتابهما بمجرد دخولهما المنزل، فضلاً عن مرورهما بغرفة ابنتهما التي كانت قبيل ساعات بل سويعات قليلة تفوح منها رائحتها وترد عليهما بصوتها العذب الجميل من داخلها.. وكم شهدت دمعات غالية وعبرات متحشرجة لآباء وأمهات يسلمون فلذات أكبادهم إلى رجال غرباء.. لا يعرفون عنهم إلا النزر اليسير عن دينهم وأخلاقهم وسلوكياتهم، وما يترتب على ذلك الانتقال إلى بيت جديد وحياة أجد برعاية رجل آخر جديد.
آه ثم آه، فالصوت منقطع والرائحة مفقودة والغرفة مظلمة خالية موحشة، إنها قصة وداع صعبة، بل إنها غصة تتحشرج في الصدر دون معرفة أسبابها، لماذا هذا كله فيما يتعلق بفراق البنت دون الابن، هل هناك فرق بينهما؟ كلا وألف كلا، ولكنها الرحمة لهذا الكائن الضعيف لأسباب غير معروفة.. قد تتعلق بمصير البنت وما يتبع ذلك من ارتسام أكثر من علامة استفهام تتعلق بحياة ابنتهما الجديدة مع رجل كان بالأمس القريب غريبا عنها، بل وعن أهلها، فهل سيحفظ لها كرامتها ويضمن لها حياة سعيدة وهل هو كفء لها وهل وهل...؟ أكثر من علامة استفهام وأكثر من سؤال لا يعرف إجابته إلا علام الغيوب مسيّر هذا الكون.. إنه المجهول الذي ذهبت إليه فلذة الكبد، وبخاصة إذا كان الزوج غير معروف لدى والدي الفتاة مما يجهلان معه سلوكياته ونفسيته وتعامله مع ابنتهما.
تدمع العين وتتخلج في الصدر غصة، ويعتصر القلب ألماً ولا يملك الأبوان إلا الدعاء والدعاء فقط لبضعتهما التي سوف تكون زيارتها لبيتها الأول بل لوالديها معلومة ولساعات معدودة.. إنها سُنة الحياة فما أقساها وأصعبها على الوالدين.
المرأة كائن ضعيف مهما حاول الآخرون نفي تلك الصفة وتهكموا على مردديها.
نعم المرأة كائن ضعيف وبصفة خاصة في مجتمع يغلب عليه الطابع الذكوري ويتصف بالقسوة على هذا الكائن الضعيف وسلب حقوقه، فهو الآمر الناهي نتيجة عادات وليس عبادات.. فالرجل كامل الحق في أن يتزوج عليها متى ما شاء، ويهجرها متى ما شاء، ويطلقها متى ما شاء، حتى بدون ذكر للأسباب.
لقد أعطى ديننا الحنيف المرأة كامل الحقوق والواجبات، ولكن في أرض الواقع هل أخذ هذا الكائن الضعيف هذه الحقوق وتلك الواجبات.. الواقع يقول إن هذه الحقوق وتلك الواجبات مصادرة فعلاً، على الأقل في الحياة الزوجية، وكذلك في الحياة الاجتماعية بفعل أحادية الرجل وجبروته الذي منحه إياه المجتمع لا الدين، وحاشاه، وعندي مثال حي وصارخ لقريبة لي عانت لأكثر من عشرين عاماً على جبروت الرجل وشناعة فعله.
أعود لموضوعي وأقول ولعل سائل يسأل وله الحق أن يسأل إن ما أكتب عنه هنا ليس التجربة الأولى التي عاشها وعايشها صاحبكم، فقد سبقها حالة أخرى مماثلة، وهو زواج أختها الكبرى، أقول حقاً ما تقول ولكن لأسباب لا يعلمها كتم مشاعره وخنق أحاسيسه وحاول بشتى الطرق أن يبدو شجاعاً على الأقل أمام القريبين منه، فلم يبوح بمكنون الصدر وخلجات النفس وتماسك مبدياً الفرحة حتى لا يضيعها على المحتفلين بها من الأهل والأقارب، ولكن يشهد الله أنه عاش ظروفاً صعبة وعبرات متكسرة دافع بها واقع الانكسار الذي عاشه تلك الليلة وما بعدها متجلداً بالصبر والابتهال إلى المولى سبحانه وتعالى بأن يوفق فلذة الكبد في حياتها الزوجية، وأن يرفف على عشها الزوجي الحب والخير والسعادة.
صحيح أن بعض الآباء قد يكون يتعامل مع أبنائه وبناته بشيء من الشدة والغلظة، وذلك لمصلحتهم، ولا سيما في مثل هذا العصر، وأنا واحد من أولئك، ولكن يظل الأب ولو لم يكن على الأقل مبدياً مثل هذا الشعور ظاهرياً، حنوناً ليناً متعاطفاً مع البنات أكثر من الأولاد لأسباب لا تغيب عن فطنة القارئ الكريم.
الحديث عن موضوع زواج البنت دون الولد يحتاج إلى استحداث مفردات جديدة تتناسب والحدث الذي رأيت الحديث عنه.. لكنها أحاسيس ومشاعر أبت إلا أن تظهر وكلمات وحروف اختلجت بها النفس فانطلقت لتعبر وتفصح عن مكنونات رجل كان يتوقع أنه قوي وجلد وصلب في كل المواقف، إلا أنه في مثل هذا الموقف ظهر ضعفه واهتز جلده بل خانه وارتعدت فرائصه، وسجد لله القوي الواحد القهار أرحم الراحمين الذي تفضّل عليه بآلاء ونعم كثيرة، كما يبتهل إليه سبحانه بأن يتفضل عليه بأن يقضي بقية حياته في ظل أمجاد متواصلة وحياة سارة عظيمة فهو المستعان والمرجو وهو كل شيء قدير.