المنطقة العربية تواجه محنة غير مسبوقة في الصراعات والحروب وانتشار الفوضى والإرهاب ">
الإسكندرية - مكتب الجزيرة - علي فراج:
يواصل مثقفون وباحثون عرب وأوروبيون مناقشاتهم حول ظاهرة الإرهاب باعتباره صناعة تقف وراءها دول واستخبارات دولية فضلاً على أنها أفكار مغلوطة يستغلها البعض لتجنيد الشباب العربي والمسلم من أجل تفكيك المنطقة وشرذمتها والدفع بها إلى أتون الفوضى، وتأتى تلك المناقشات من خلال ورش عمل على هامش مؤتمر «صناعة التطرف: قراءة في تدابير المواجهة الفكرية»، الذي تعقد فعالياته بمكتبة الإسكندرية، وحيث يشهد مشاركات نحو 250 باحثًا ومفكرًا من 18 دولة عربية تضم خبراء في مجالات التطرف والإرهاب وعلم الاجتماع والعلوم السياسية والإسلامية وقال الدكتور خالد عزب؛ رئيس قطاع المشروعات والخدمات المركزية بمكتبة الإسكندرية، أن المؤتمر يعقد لمواجهة ظاهرة الإرهاب والتطرف التي أصبحت مستفحلة في الوطن العربي والإسلامي لأسباب لا علاقة لها بالدين الإسلامي بل بالتطرف الفكري الذي يدمر المنطقة، ولفت إلى أن المؤتمر يأتي في إطار إستراتيجية متكاملة للمكتبة يأتي في أبرز أركانها عقد شراكات مع عدد من الدول لمكافحة ظاهرة التطرف، جاء في إطارها المؤتمر الذي نظمته المكتبة مع الرابطة المحمدية للعلماء في المغرب خلال الشهر الحالي، ومؤتمر آخر سيعقد بمملكة البحرين بالتعاون مع مركز عيسى الثقافي في مايو المقبل.
فيما لفت الدكتور أسامة نبيل ممثل شيخ الأزهر في المؤتمر إلى أهمية الحدث الذي يسلط الضوء على موضوعات حساسة تتطلب تضافر الجهود بين المؤسسات المعنية لمكافحة التطرف، وأكَّد على جهود الأزهر الشريف في نشر وسطية الإسلام، وخدمة المسلمين وغير المسلمين من خلال نشر ثقافة الإسلام والتأكيد على قيم المواطنة والتعايش السلمي ورفض التمييز والعنف.
وأضاف أن الأزهر يكرس كل قطاعاته لتطبيق هذا المبادرات على أرض الواقع وتنظيم العلاقة بين الأفراد والشعوب في إطار القيم الدينية والإنسانية وقال: إن الأزهر وإمامه قد اتخذا موقفًا واضحًا لمكافحة كافة التيارات الفكرية المخالفة ورفض وإدانة كل أشكال الإرهاب، كما أن الأزهر قد وضع ملامح خطته لمكافحة الإرهاب منذ أواخر عام 2014 في أول مؤتمر عالمي لمواجهة الإرهاب.
وأضاف أن شيخ الأزهر قد عقد عديدًا من اللقاءات داخليًا وخارجيًا لتوضيح حقيقة أن الإرهاب لا دين له، وأشار نبيل إلى أن الأزهر قد اتخذ خطوات جادة لتجديد الفكر الإسلامي، ومنها مؤتمر «تجديد الفكر والعلوم الإسلامية»، كما عقد سلسلة من اللقاءات مع الأدباء والمثقفين لصياغة وثيقة الأزهر وأضاف أن شيخ الأزهر يحرص على إرسال وفود من الأزهر للمشاركة في مؤتمرات دولية تشارك في مناهضة الإرهاب على أرض الواقع وقال: إنه في عام 2015، حدثت نهضة تعليمية بحيث تم تطوير التعليم الأزهري وخرجت المناهج في ثوبها الجديد لتساعد على إخراج جيل قادر على حمل قيم الأزهر الشريف. وأضاف أن الأزهر يعقد دورات تدريبية للعماء، ويطبع الكتب التي تظهر وسطية الإسلام، كما تم تدريب 500 واعظة بالأزهر، والمشاركة في قوافل السلام الدولية في عديد من دول العالم وأكَّد في الختام أن الأزهر مستمر في دوره ومساعيه لنشر قيم الإسلام السمحة، واستمرارًا لخطته أنشأ الأزهر مرصدًا باللغات الأجنبية لتعزيز صورة الإسلام ودعم السلم المجتمعي والتعرف على مواقف واتجاهات الرأي العام العالمي.
في حين أوضح الدكتور إسماعيل سراج الدين؛ مدير مكتبة الإسكندرية، أن المؤتمر قد أوصى في دورته السابقة بعقد هذا المؤتمر بصورة دورية ليجمع المثقفين العرب ويناقش ويبحث ويتابع ظاهرة التطرف التي تجتاح العالم العربي، وقد استجابت المكتبة لهذه التوصية وأوفت بوعدها، وعقدت ثاني مؤتمراتها في هذا الخصوص، وأضاف أن المكتبة نظمت خلال العام المنصرم عديدًا من الأنشطة والفعاليات التي تسعى إلى توسيع الاهتمام بهذه الظاهرة المدمرة، ليس لمنطقتنا فقط بل والعالم بأسره، ووصف سراج الدين التطرف الديني بـ»المدمر» للمجتمعات ليست العربية فقط، ولكن للعالم كله.. مبينًا التفاف المفكرين والباحثين حول كافة الأنشطة التي تبنتها المكتبة للقضايا الفكرية ومواجهة التطرف واعتبر أن الفكر هو السلاح الحقيقي لمواجهة الفكر المتطرف، بالاستناد إلى آراء كبار العلماء والفقهاء في ظل اعتبارات الزمن الراهن من خلال الجد والبحث بعدم تكرار النصوص والاستعانة بأحاديث السلف فحسب، مشددًا على اختلاف صحيح الدين عمّا تردده الجماعات المتطرفة مثل «داعش» بما يولد تحديات جديدة كل لحظة وأضاف سراج الدين أن المسلمين يتعرضون حاليًا إلى محنة لم يتعرضوا لها على مدار تاريخهم بالدفاع عن الأوطان من التطرف والإرهاب، مؤكدًا أن الإسلام دين الوسطية بما يحمله التاريخ من شواهد تؤكد عدم المساس بالحرية الدينية والمساواة بين البشر وطالب سراج الدين بالتمكن من الاستفادة من استراتيجيات الحكمة والمبدأ وانعكاسه على الواقع الجديد، بمعرفة المقاصد والقواعد، وتبني التعددية والتخلص من النعرات العرقية والإثنية التي تخلق الصراعات في المجتمعات، وطرح سراج الدين تساؤلاً عمّا يمكن أن يعوض العراق وسوريا من تراثها وثقافتها وإضعاف التعددية التي طالما كانت تفخر بها، وتراجع المجال العام وتفريغ المجتمعات من إمكانات التعاون والثقة، مرجعًا تلك الحالة من منابع التطرف إلى الأنظمة الشمولية والتدخل الأجنبي في الشؤون العربية والكيل بمكيالين في القضايا العربية وشدد سراج الدين على أنه لا بديل عن تبني مبادئ التنمية والحكم الرشيد والسعي إلى تطوير التعليم وبناء العقل النقدي ومنجزات العلم الحديث دون التضحية بالهوية العربية الإسلامية.
وأضاف: «شرفنا أن يكون عقد المؤتمر تكليفًا من رئيس الجمهورية السابق المستشار عدلي منصور. ووضع الرئيس عبد الفتاح السيسي المؤتمر تحت رعايته، وأشار إلى نتائجه في خطابه أمام القمة العربية التي عقدت في مصر في شهر مارس عام 2015، وأعطى توجيهاته دعمًا لمكتبة الإسكندرية في مواصلة العمل بجدية في برنامج مواجهة التطرف بالتنسيق مع الهيئات الدينية والثقافية وفي مقدمتها الأزهر الشريف. وأكَّد سراج الدين على أن مكتبة الإسكندرية هي بيت المثقفين العرب منذ نشأتها، وما من مبادرة نقوم بها أو جهد نسعى إلى تحقيقه إلا وكان المثقفون من شتى الأقطار العربية حاضرين، لأن مكتبة الإسكندرية إن كانت لها إطلالتها الدولية، إلا أنها تظل المؤسسة الثقافية العربية، متنوعة الاهتمامات، وسوف تظل المكتبة بما تمتلكه من رصيد تاريخي ونشأة حديثة وخدمات ثقافية متقدمة أحد الأرصدة الثقافية التي يمتلكها العرب وشدد على أن اجتماع العرب للعام الثاني على التوالي جاء تعبيرًا عن إدراك لخطر التطرف، فقد صار موضوع الساعة، يطل علينا في الإعلام والثقافة والمجتمع بوجهه القبيح، ويخلف حالة من التجريف الإنساني في المجتمعات التي يطأ بقدمه فيها، فمن أي مورد أتى هذا التطرف وهؤلاء المتطرفون؟ ولماذا يعاد إنتاج مقولات عتيقة وآراء فاسدة تسوغ للكراهية والقتل؟ فالإسلام براء منهم ومن تطرفهم ولا نوافق أبدًا أن يحمل هؤلاء اسمه أو ينتسبون إليه وأضاف: «لقد بات علينا نحن المثقفين العرب أن نحمل لواء الدفاع عن الدين الحنيف، فلم يكن المسلمون في محنة طيلة تاريخهم مثلما هم عليه الآن، وهي معركة كل العرب، مسلمين ومسيحيين، للدفاع عن أوطاننا ضد التطرف والإرهاب». وأكَّد أن التطرف بوصفه غلوًا في الدين أو الفكر أو المذهب، ومجاوزة الاعتدال في الأمر، رفضه المسلمون الأوائل، وعلماؤنا منذ قرون يرون في القول المخالف للشرع والفعل المخالف للشرع تطرفًا، لأنه يعبر عن فهم للنصوص الشرعية بعيدًا جدًا عن مقصود الشرع وروح الإسلام وأكَّد سراج الدين أن الفكر لا يحارب إلا بالفكر، وأنه لا مجال لأحادية الرأي والمذهب والفكر، فهي وقود التطرف والغلو، وهو ما يتعارض أيضًا مع النسيج الثقافي والاجتماعي في المجتمعات العربية التي تقوم على قاعدة التنوع والتعددية، لافتًا إلى أن الخطاب الديني المعاصر يجب أن يكون له صفات خاصة، من أهم عناصرها الابتعاد عن الترهيب والانتقال إلى الترغيب وقال:نه إذا كان للتطرف في المنطقة العربية منابع من سوء الفهم، ومغالاة وجهل بالدين الحنيف وأصول الفقه الإسلامي، فإن هناك أسبابًا عدة تضاف إلى جواره منها تراجع منسوب الحريات العامة وتفشي الشمولية وانخفاض جودة التعليم والجهل والفقر والتهميش والتدخل الخارجي في شؤون الأقطار العربية وشدد في الختام على ضرورة الانفتاح الثقافي ومواجهة فكر العزلة التي يود أن يحشرنا فيه البعض، بهدف أن يكون تواصلنا مع العالم الخارجي تجاريًا فقط، في حين أن لدينا المنتجات والإبداع والتأثير الثقافي.
من جانبه، أكَّد نبيل يعقوب الحمر؛ مستشار الملك حمد بن عيسي آل خليفة ملك مملكة البحرين لشؤون الإعلام، أن هذا المؤتمر يعد من أهم الفعاليات الفكرية التي تسعى لبلورة المواقف والإستراتيجيات لمواجهة التحديات في مجال التطرف والإرهاب، لافتًا إلى أن عنوان المؤتمر يعكس حجم التحديات التي تواجه منطقة تموج بالصراعات والحروب وانتشار الفوضى والإرهاب وأكَّد أن الإعلام منذ ظهوره قد قام بدور كبير، ليس فقط في إبراز الاتجاهات الدينية والسياسية والاقتصادية بل في صنع هذه الاتجاهات.
وأضاف أن الإعلام هو منبر تنويري يصل صوته لملايين البشر، ولذلك يجب أن يكون محورًا رئيسًا في المواجهة الفكرية للتطرف لما له من تأثير ولفت إلى أن المؤسسة الإعلامية لها دور كبير في رسم ملامح المجتمعات، وقدرة هائلة للوصول بشكل أسرع وأكثر جاذبية، وهناك من استغل هذا التأثير بشكل إيجابي وهناك من استغله بشكل سلبي للتأثير على اتجاهات الأجيال الجديدة وتخريب المجتمع وقال: إن حركات التطرف، خاصة الديني، نبتت في مجتمعاتنا كالفطر في محاولات لفرض قواعد غريبة عن الأديان، فنحن نتواجه مع حالة فكرية احتكارية للحقيقة تستخدم الإرهاب أداة لها. وشدد على أهمية العمل على تجفيف مصادر الإرهاب ماليًا بنفس المثابرة على تجفيف مصادره الثقافية والتربوية والفكرية.
وعلى هامش المؤتمر انتقد المسؤول البحريني، إيران متهمًا إياها بمحاولة غرس الطائفية في الدول العربية، فيما العالم العربي كله، وليس فقط منطقة الخليج لم تشهد تفرقة طائفية، حيث نشأت الأجيال على التعامل مع الإنسان دون تفرقة أو طائفية وأعرب الحمر عن دهشته إزاء تصعيد التصريحات الإيرانية، وما أسماه «تصيد» واقعة قصاص السعودية من 47 شخصًا تم إدانتهم بالتحريض وأعمال إرهابية منهم شيعي واحد، واصفًا ذلك الإجراء بأنه يعد محاولة للاستمرار في التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية وعزا هذا الموقف الإيراني إلى ما تحظي به السعودية من تأييد عربي ودولي لمواقفها في الحرب ضد الإرهاب عبر تطبيق الشريعة الإسلامية وأضاف أن إيران دولة تقوم بالأساس في دستورها ومبادئها على الطائفية؛ بما يمنع أي طائفة أخرى بتقلد أي وظائف عليا، وأنها تعمل على تصدير الطائفية إلى الخارج بخلق التوتر في مناطق الخليج وغيرها، كما تقوم يوميًا بإعدام العشرات على خلفيات طائفية مغايرة لها.
وفي كلمته، قال الدكتور أحمد العبادي؛ الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء بالمغرب، أن التطرف أصبح صناعة لها هندستها وروافدها وأنسقتها وثمارها البغيضة. ولفت إلى أن هذه الأنساق تتحرك من عدة روافد؛ النصي والعسكري والاقتصادي والسياسي والدعائي والتواصلي الذي يستهدف الوصول للناس وخصوصًا الشباب وأكَّد أن صناعة التطرف لها أربعة أعمدة؛ وهي حلم الوحدة، حلم الكرامة، حلم الصفاء وحلم الخلاص. ولفت إلى أن تحليل خطابات داعش يبين هذه الأفكار التي يعتنقونها؛ فهم يرون أن تدينهم يتميز بالصفاء عكس تدين الآخرين، وأنهم هم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة وشدد على أن المعركة الأساسية التي ينبغي التركيز عليها في محاربة أفكار التطرف هي معركة «النص»، فيجب تنسيق الجهود لوضع النص في سياقاته الصحيحة لمنع التأويل الذي لا يضع اعتبارًا للمآل. وأكَّد على أهمية تحرير المصطلحات والمفاهيم حتى لا تستخدم من قبل أي جهة لأغراض معينة، وأيضًا الاعتماد على القياس، والحكم على الأمور بثمارها ونتائجها ولفت إلى أن القياس يكون من خلال مدخل المقاصد الكبرى؛ وهي حفظ الحياة عن طريق قياس مؤشرات مدى تحقيق الحياة الكريمة، وحفظ الدين من خلال العلماء الوسطيين، وحفظ العقل.
وأكَّد على أهمية العمل على تفكيك خطاب التطرف وتنظيم وترتيب الأمور التي تأتي في هذا الخطاب؛ وهو ما قامت به الرابطة المحمدية للعلماء وظهر فيها بعض النقاط؛ ومنها: قضية المؤامرة على الأمة، قضية الاستعمار، إسرائيل، المعايير المزدوجة، نهب الثروات، الإهانة في وسائل الإعلام، وتزوير التاريخ والجغرافيا.
من جانبها أكَّدت الدكتورة أم العز الفارسي؛ الأكاديمية والسياسية الليبية، أننا يجب أن نقوم بقراءة موضوعية للواقع وما حدث في بلادنا، ففي الوقت الذي قمنا فيه بالثورات كانوا هم يؤسسون المعسكرات ويشهرون أسلحتهم في وجوهنا.
وأكَّدت أن التيار المدني العربي لم يكن مزودًا باللازم لإدارة معركة يكون فيها بديلاً عن التطرف في أذهانهم وأوضحت أن هؤلاء المتطرفين هم أبناء الوطن العربي ولم يأتوا من الخارج، ومن هنا يجب أن نفهم أسباب ما آلت إليه الأمور.
وأكَّدت أنه إذا لم يكن لدينا خطاب متوازن قادر على طرح الأسئلة الواقعية الحقيقية سيكون مصيرنا أن نحترق بأيدي أبنائنا وطرحت عددًا من التساؤلات التي يجب الإجابة عليها لتكوين منهج عقلي واقعي للعمل عليه في المرحلة المقبلة؛ وهي: هل يكفينا قبضة عسكرية وأمنية للقضاء على التطرف أم هناك جدلية تقول بأهمية التعليم والثقافة والأدب والفنون للخروج بعقل قادر أن يستوعب لا يحتوي أفكار الآخرين؟ هل من الممكن أن يصبح للنخبة المدنية دور حقيقي في الشارع؟ هل نستطيع أن ننتج خطابًا جديدًا لمواجهة هذه الأزمة بدلاً من الدخول في صراعات واستخدام القوة المفرطة والعنف الشديد؟
إلى ذلك يختتم المؤتمر جلساته اليوم الثلاثاء بعد ثلاثة أيام من المناقشات حول عدد من المحاور؛ منها نقد خطابات التطرف، الإعلام ومواجهة التطرف، الأمن القومي، التعليم والتطرف، والإرهاب الداخلي في أوروبا، ومن المنتظر أن يطرح المؤتمر توصيات تتضمن خطة متكاملة الأرجاء تشمل تعاونًا بين عدد من المراكز والمؤسسات الثقافية في كافة الدول العربية للحد من ظاهرة التطرف.