أولت المملكة العربية السعودية الوثائق اهتماماً كبيراً في سبيل الحفاظ عليها، وجمعها، حيث تكمن أهمية الوثائق في أنها الأصول التاريخية النزيهة، والتي تُعتبر منبعاً بكراً وأصيلاً لدراسة العصر الذي يبحث فيه، فهي لب الدراسات التاريخية، ويجب حصر هذه الوثائق وفهرستها وترميمها ودراستها ونشرها لأنه إذا لم تكن هناك وثائق فليس هناك تاريخ. والوثائق تعني شيئاً مكتوباً بطريقة ما صادرة من جهة موثوق بها، وإن كانت أساساً لم تكتب للتاريخ ولكن تكتب عادة لغاية محددة إدارية أو قضائية أو حربية. والوثائق أية مادة تحمل معلومات نافعة سواء كانت هذه المادة ورقة، صورة، شريطاً، قرصاً ضوئياً، وهي الأوعية التي تحتوي على معلومات تتعلق بأعمال ومصالح الدولة. وتكشف الوثائق عن التطورات الإدارية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية للدولة والمؤسسات، كما تُعد الوثائق المكتوبة هي المصدر الأول لأيّ بحث تاريخي.. ودُور الوثائق في العالم لم تعد مجرد مكان يقدم خدمة للباحثين فقط، ولكن أصبحت بنوكاً للمعلومات تقدم خدمات في إطار من الجدوى الثقافية والاقتصادية حفاظاً على تراث وتاريخ الشعوب وحفاظاً على كيان المجتمع لا بد لنا من الحفاظ على تراثه.. فتوجد الوثائق والمحفوظات الإدارية، والوثائق المالية وتوجد أيضاً ما يُسمى بالوثائق التاريخية، فالوثائق التاريخية كانت في وقت كتابتها عبارة عن تعاملات يومية ليس لها قيمة ولكن بمرور الوقت أصبحت تدل على الحالة الاجتماعية والسياسية والثقافية لفترة أو حقبة معينة وأصبحت مصدراً من المصادر الهامة للتاريخ. لذلك يجب قبل أن يتم إتلاف الوثائق عرضها على متخصصين لتحديد الوثائق المهمة من المعاملات اليومية ويحتفظ بها ورقياً أو أصولاً.
ضرورة الحفاظ على الوثائق
الحفاظ على الوثائق وصيانتها وإنقاذها من الأخطار التي تتعرض لها ما زال الشغل الشاغل لرجال العلم والثقافة بوجه عام، والوثائقيين وأمناء المكتبات والآثاريين والفنانين بوجه خاص، لكون هذه الذخائر من التراث الثقافي للبشرية جمعاء، وكانت البدايات في هذا المجال محاولات متفرقة تجري في مختبرات المتاحف ودور الوثائق على نطاق الجهود الفردية أحياناً أو الحكومية على أوجه مختلفة، فكان لكل جانب أسلوبه الخاص في ترميم وصيانة السجلات وغير ذلك من المحفوظات والآثار الفنية من الذخائر العلمية والثقافية، أما على النطاق العلمي فإن أول محاولة علمية لدراسة الأسباب المؤدية إلى تلف الوثائق وتردي أحوالها، والبحث عن أفضل الوسائل التي تكفل حمايتها وتؤمّن صيانتها فقد جاءت من قبل إدارة مكتبة الفاتيكان عندما وجدت أن الكثير من مجموعات الوثائق لحقها التلف مثل تقصف الورق وتساقط ألوان الصور والحبر بجانب الأضرار الناجمة عن الحشرات والقوارض وغيرها، ويمكن القول اليوم إن الأساليب والوسائل المتبعة لصيانة الوثائق خلال القرن العشرين قد استقرت على أسس وقواعد علمية رصينة تعززها مختبرات وخبراء في العلوم الكيماوية والفيزيائية على درجة عالية من الخبرة العلمية والعملية تضاف إلى ذلك الأجهزة والمعدات المستخدمة لهذا الغرض. وهناك مبادئ لحماية الوثائق: فقبل أي عملية ترميم يجب أن تفحص الوثيقة بدقة متناهية لتشخيص الداء وكيفية المعالجة والطريقة الأنجح. لذلك يتم وضع جدول وصفي للوثيقة المراد ترميمها تحتوي على معلومات الآتية: تاريخ الدخول، نوعية الوثيقة، الأضرار، والطريقة المتبعة، المواد المستعملة، تاريخ الخروج. ومن الضروري العمل على الحفاظ على وثائقنا وتعاون الجهات المختصة في تبادل الوثائق، ورفع مستوى العاملين في الحفاظ على الوثائق والرقمنة والأرشفة الإلكترونية.
المشكلات والمخاطر التي تتعرض لها الوثائق وتؤدي إلى فقدانها، وبالتالي فقد هذا الكنز من المعلومات في الغالب تتعامل المؤسسات والوزارات أحياناً بشكل يدل على عدم إدراك أهمية الوثائق الخاصة بتلك المؤسسات، فمثلاً تجد دائماً مكان حفظ الوثائق أو الأرشيف في البدروم، في أماكن لا يوجد فيها تهوية أو تكييف مركزي، أو إضاءة جيدة، والعاملين في الأرشيف طوال فترة عملهم داخل هذه الأماكن، وربما يأكلون ويشربون بعد التعامل مع تلك الوثائق المصابة مما يسبب لهم العديد من الأمراض أقلها الأمراض الجلدية.. والمشكلة الأخرى أن معظم العاملين في مراكز الوثائق غير متخصصين سواء بالأرشفة أو الحفظ أو التصنيف، وبالتالي غير مدركين لخطورة وأهمية تلك الوثائق التي بين أيديهم ويمكن أن يتركوا الملفات أو الصناديق عشرات السنين بدون أي صيانة أو متابعة لها، وحين تبحث عن تلك الوثائق تجدها تحولت إلى رماد نتيجة لإصابتها بالحشرات والفطريات، وتكون النتيجة إتلافها رغم ما تحتويه من معلومات ذات قيمة تاريخية.. وبعضهم لا يفرق بين الوثائق الحديثة والوثائق التاريخية المهمة وبالتالي يمكن أن تجد من الوثائق التي ترسل لإتلافها وثائق بإمضاءات شخصيات تاريخية أو وثائق اجتماعية مهمة.
التدابير التي يجب مراعاتها للحفاظ على الوثائق والمحفوظات
اختيار موقع مكاني جيد ومناسب لمركز الوثائق، والعاملين في مراكز الوثائق أو الأرشفة يفضل أن يكونوا دارسين لأهمية تلك الوثائق وأساليب حفظها أو تدريبهم وتنمية مهارتهم على التعامل مع الوثائق والأرشفة والطرق العلمية في حفظ الوثائق، وتثقيف العاملين على كيفية تجنب الأخطار التي تنتج من الوثائق المخزنة لسنوات طويلة مثل إجراء التعقيم الدوري للوثائق ومكان الحفظ حتى يتم التخلص من الحشرات والفطريات التي تؤثر على صحتهم، وارتداء ملابس خاصة واقيه وقفازات أثناء التعامل مع الوثائق لأن الأتربة الناتجة من تلك الوثائق تحمل ميكروبات وجراثيم غير مرئية تصيب العاملين بأمراض صدرية، ويجب حفظ الوثائق في سجلات وأوراق خالية من الحموضة حتى لا تؤثر على بقاء الأوراق، وعدم استخدام الدبابيس في التعامل مع الوثائق لأنها تسبب مشاكل كثيرة مستقبلية، وتوعية العاملين بمراكز الوثائق بأهمية تلك الوثائق وسريتها وكيفية التعامل معها أثناء نقلها أو حفظها، ولا بد من وجود مراكز أو أقسام ترميم متخصصة في ترميم الوثائق داخل مراكز الوثائق للتعامل مع الحالات الطارئة من الوثائق التالفة مثل القطوع أو التعقيم أو الحفظ وهكذا.
ضرورة التحول من الأرشيف التقليدي إلى الأرشيف الإلكتروني
الأرشفة الإلكترونية تعني تحويل الوثائق الورقية إلى وثائق إلكترونية تحفظ في وسائط التخزين الحاسوبية وفهرستها وتصنيفها، ويمكن الاستعلام عنها بالكلمات المفتاحية، وعرضها بسرعة دون التعامل مع الوثائق الأصلية.. وللتحول من الأرشيف التقليدي إلى الأرشيف الإلكتروني يجب توفير الأجهزة والآلات: مثل الماسحات الضوئية، الحاسب الآلي، الطابعات وجهاز الحاسوب وجهاز الخادم وغيرها، وكذلك البرامج التطبيقية الخاصة بالأرشفة مثل البرامج التطبيقية التي يتم تصميمها من قِبل المبرمجين والمطورين لتخدم عملية الأرشفة، وهناك البرامج المساعدة: مثل برنامج Wise Image يستخدم لتنظيف الوثائق على النقط السوداء أو الانحناءات وبرنامج View Rx View يساعد على عرض ومشاهدة 300 نوع من الملفات أو غيرها من البرامج المساعدة.. ومن فوائد الحفظ الآلي للوثائق الحصول على المعلومات الصحيحة في الوقت والشكل المناسب، ومشاركة الآخرين للاستفادة من الوثيقة في نفس الوقت.
جهود المملكة العربية السعودية في حفظ الوثائق
صدر نظام المركز الوطني للوثائق والمحفوظات في عام 1409هـ، ونستبشر بنظام الوثائق والمحفوظات وهو يرسم الهدف المنشود منه وهو المحافظة على الوثائق وفهرستها وتصنيفها لتمكين سرعة الاهتداء إليها عند الحاجة وتنظيم تداولها والاطلاع عليها.. وهو يعمل بكل جهد للتخلص من الفوضى الوثائقية التي تعاني منها المؤسسات.. ومن مهام المركز الوطني كما توجزها المادة الثالثة من نظامه هي إعداد اللوائح وتنفيذها بعد إقرارها إعداد دليل تصنيف موحد للوثائق، ودليل موحد لترميز الأجهزة، وجمع الوثائق وفهرستها وتصنيفها وترميزها وحفظها وصيانتها وتنظيم تداولها، والإشراف على الأجهزة الحكومية، وتوفير البيانات والمعلومات عن الوثائق للمستفيدين.. وتحقيق التنسيق والتكامل مع الأجهزة المعنية بالوثائق وتبادل الخبرات معها وتحقيق التعاون مع الأجهزة الدولية المعنية. من خلال المشاركات الدولية والعمل على إيجاد وتوفير العناصر المؤهلة بكافة السبل المؤدية لذلك.. وأصدر المركز العديد من اللوائح مثل السياسة العامة للوثائق ولائحة الحفظ والتقويم والترحيل والإتلاف والأوعية والإيداع والتزويد والاطلاع والوثائق المالية.. كما أصدر الخطة الموحدة لتصنيف الوثائق.. واستطاع المركز أن يجعل من نفسه أنموذجاً يحُتذى به في تنظيم وثائقه.. والمركز لن يتمكن من العمل بشكل فعّال ما لم يتم إنشاء مركز للوثائق في كل جهاز حكومي، فتوجد آمالٌ كبيرة معقودة على المركز الوطني للوثائق والمحفوظات، فهو الصرح الذي نستبشر به خيراً لينفض الغبار عن الوثائق ويحفظ المعلومات ويوفرها لكل مستفيد.. وكذلك مركز الوثائق والمحفوظات أمانة محافظة جدة والذي تم تطوير وإنشاء مبنى متخصص للوثائق والمحفوظات على أحدث طراز في التصميم الملائم لحفظ الوثائق، فبعد أن كانت الملفات مكدّسة وبدون ترقيم أو فهرسة وحفظها داخل صناديق معدنية مغلقة لسنوات طويلة تؤدي لإصابتها بالحشرات والفطريات التي تؤثر على العاملين في مجال الأرشفة، تم إعادة فهرستها ورقمتنها وحفظها بطريقة علمية.. وضم المبنى مركز خدمات متكاملة للأرشفة، قاعات للحفظ والأرشفة للوثائق جيدة التهوية وحفظها داخل ملفات جديدة غير ضارة على ورق الوثائق، والعمل على الحفظ الإلكتروني للوثائق.. ومن التجارب الجديدة الناجحة تجربة جامعة الملك سعود، والتي أشرف بالانتماء لها وإنشاء مركز ومبنى متخصص للوثائق، والذي يجمع كل الوثائق والمعاملات التي تخصلجامعة.. وجمع الوثائق بأنواعها المختلفة ووصفها وتصنيفها حسب موضوعاتها وفترتها الزمنية وفهرستها وحفظها بأحدث الوسائل والطرق في هذا المجال.. وتُعد من أوائل الجامعات التي أنشأت مركزا ًللوثائق وتأسيس قاعدة للوثائق واسترجاعها وتداولها وحفظها، وإنشاء مبنى متخصص بكافة الأجهزة للحفاظ على هذا الإرث الحضاري.. وكذلك مركز الوثائق بدارة الملك عبد العزيز الذي يحتفظ بمجموعات ضخمة ونادرة من الوثائق المحلية الأصلية والمصورة التي تتجاوز ثلاثة ملايين وثيقة تشمل مراسلات تاريخية وصكوكاً وملكيات وخطابات رسمية وقرارات وبيانات وتقارير، إضافة إلى عشرات الآلاف من الوثائق العثمانية والأمريكية والبريطانية والفرنسية والهولندية والألمانية والهندية والروسية والإيطالية ذات العلاقة بتاريخ المملكة العربية السعودية وتاريخ الجزيرة العربية حيث قام المركز بترجمة العديد منها وعمل ملخصات لها باللغة العربية وتقديمها للدارسين والباحثين.. ومن التجارب العربية الرائدة تجربة دار الوثائق القومية بمصر، والتي تمثّل حجر الزاوية في ذاكرة الأمة، الصندوق الذهبي لتراث مصر المكتوب، تم إنشاؤها في عهد محمد علي عام 1828م، وتحتل المكانة الثالثة من حيث الإنشاء على المستوى العالمي. تهتم بحفظ وجمع وثائق الدولة حيث جمعت ما يقرب من 90 مليون وثيقة وتُعد من أكبر الدور على مستوى العالم من حيث الوثائق الموجودة بها.. وقامت بمشروع ضخم عام 2003 وهو التوثيق الرقمي لمقتنيات دار الوثائق القومية كخطوة مهمة للحفاظ على تاريخ مصر، والحفاظ على أمن وسلامة الوثائق وتتيح للباحث والمفكر الحصول بسهولة على المعلومات، حيث تم الفرز والتصنيف لملفات الدار، واستخدمت طريقة التسجيل الصوتي للوثائق لتجميع البيانات من الوثائق، للتغلب على الحيز المكاني للوثائق مما ساعد على تسجيل ما يقرب من 25 ألف وثيقة يومياً ثم يتم إرسالها إلكترونياً إلى مركز إدخال البيانات خارج دار الوثائق، والمسح الضوئي للوثائق ولإدخالها على شبكة الإنترنت، وقاعات الاطلاع للباحثين من خلال بيانات الباحثين بالتعرف الإلكتروني، وعمل بوابة إلكترونية لدار الوثائق القومية المصرية لخدمة الباحثين على مستوى العالم مما يمكّن الباحث العربي والأجنبي للاطلاع على الوثائق.
ضرورة رفع المستوى الأمني للوثائق وحمايتها من التزوير
وذلك باستخدام التشفير للوثائق المنقولة عبر شبكات الاتصال، وتأمين الدخول إلى مكان أجهزة التخزين الآلي، وتأمين الدخول على النظام، وحفظ نسخ احتياطية على أقراص ضوئية في مكان آخر، وأمن وسلامة مكان وجود أجهزة التخزين الآلي، وتأمين إتلاف الوثائق عديمة الفائدة.. ويفضل عند استلام وثائق في شكل إهداءات أو عن طريق الشراء يجب فحصها بدقة للتأكد من عدم تزويرها أو تزييفها من خلال خبراء متخصصين، ويتم ذلك بفحص مكونات ورفق الوثائق والأحبار، والخطوط، والتاريخ من خلال أجهزة فحص متخصصة.. وأوصى بإيجاد إدارة متخصصة في كل جهاز حكومي تُسمى (مركز الوثائق)، وربطها مباشرة برئيس الجهاز أو نائبه؛ لتعمل على تحقيق أهداف أنظمة الوثائق والتنسيق مع المركز الوطني للوثائق والمحفوظات في ذلك.. والعمل على إيجاد العناصر البشرية المؤهلة للعمل بمراكز الوثائق وتحقيق الاستفادة منها.
د. عبد اللطيف حسن أفندي - أستاذ مشارك، كلية السياحة والآثار - جامعة الملك سعود