1- -
منعطف عن هذه (الخميلة).. التي كلها دفء، ينبئ عن هذا خيارها الصعب يوم انتدبت همتها إلى التدريس في الصفوف الأول، وتحديداً من الأول للثالث الابتدائي (وإن كانت تخرجت أكاديمية)، لكنها مؤثرة كما تعزو للهدف الأجل، وهو:
رغبة جامحة (كم تردد صداها في بواكير أحلامها ولم يعقب) مغزاها:
ترسيخ (إنشاء) أو التقعيد للعلم منذ الصغر..
يحدوها لذاك مأثورة محفورة بالأذهان، وعبر الأجيال أن:
(العلم في الصغر كالنقش على الحجر)...
وهذا المرام عزيز المنال؛ إذ بعيد المدى، جليل الأثر، عظيم الثمر، حتى (وإن كان قليل من يتفهمه).
2- -
.. هذا تحديداً ما كان السبب لاختيارها، ومكمنه
أو.. إن سبرت غور مرادها لتفضيلها هذا المنعرج اللواء عن التفاضل الأكاديمي الذي فيه الطموح الذاتي أعلى سقفاً بل أقرب بلوغاً من هذا الطريق الوعر (الاختيار الذي أولته وجهتها)، الذي لا تعدم أن تلفى عذلاً عليه، بل لم ينفك قرع ذهنها
-عليه- حتى من أحب الناس لها، ولسان الملام ملوحاً:
كيف انتكستِ على عقبك، ما وصلتِ، وطوحت بآمال كان مبلغها قاب قوسي يديك أو كاد؟
لكنها لتلك الغاية السامية لديها الباسقة لذاتها تحصيلها: (تبلع) على مضضٍ ما يلاك على أذنيها، وتداري ما يطولها من عتاب إيثاراً لحبّ دافعه، ومن قبل باعثه هدف أسمى.. ما كان عندها المحفز الذي يجعلها لا تلوي على ملام طالها، ولو بلغ درجة ما قد يسقط في يدها وهن بلوغ مرامها..
لكن لدى صاحبة ذي الهمة لسليل مقصد من هدف بعيد الشأوِ ربما و(جلّ أن يُسمى..)؛ ما يرفدها من الدوافع والشوافع داخلها أن تمضي وراءه (ولو امتد حقباً). أقول:
يمدها بما لا تلتفت دون تحصيله، وبقوة كامنة لديها إلى ما تدفع به تلك الترهات.
3- -
لذاك فهي تلج له (أعني الصف) بذات مفعمة، وأمل عبق يحدوها، (مع) ما يشع داخلها من روافد أدناها هو ما تصافحه بمحيا تلميذاتها الصغيرات اللاتي بعد لم تشُبهنّ أوجاع دنيا أو يغشى سدرة صفائهن ما يغشى من لباس المجاملات ومثيلات تريك الدنيا بعين حمئة إلا ما شاء ربي، مما يعشو صنيع فئام على الأمة.. فيلتبس عليها لظاهر هو خلاف ما تُبطن!
كما تمتلئ مما لم تعكر سناهن الأيام..
أو يأتي على تلقائيتهن مجاملات قد لبسها جلبابها الكبار، ردحاً من العمر فقط كي يسايروا ما يصطدمن إزاءه بوقائع قلما تبلع..
4- -
فما هي إلا وهلة وإذا لحن تلك البلابل يصدح استقبالاً..
هنا تغمرها سعادة لا توصف.. بل لا تقارن، حتى عندئذ لتود أن امتد اليوم الدراسي فطال واستطال بها معهن المقام نحواً مما أقام به عسيبُ
.. لأنها في جوٍّ تراه غير مصفر، ومناخ بهيج يسر الناظرين..
وما هي إلا برهة وقد لدّ بها حالة ما أخنى على لبد..
5- -
هنا تقف مع آمالها بكل شموخ، وفي حبور ممتلئ بما تشاهده؛ فتلتفت عن يمنة ويسرة ببطء، وكأنها تروم تأكداً فإذا تعابيرها تتسابق بملء حنان وابتسام، لكأنها توزعه على كل عين من تلك الصغيرات بالتساوي؛ لتتقرب من قلوبهن زلفاً
.. ولا تنفض من سامر ذاك إلى جدية ما ستقوم به إلا.. بعد أن تتوثق أن آتت كل واحدة منهن حظها، وأخذن نصيباً منها غير منقوص البتة..
6- -
حبيباتي..
أول لفظة تلقيها (... بعد التحية) على مسامعهن، فكأن قطعة (سكر) لا نثر أصغين منها..
ولم يعدن -بعد- يطلبن أكثر
ثم تبث لهن من خلجاتها:
«كل يوم ألتقيكن أحسبه يمدّ سنا عمري زهواً بأيامي بما يفيض علي ما يفعمه منكن..»
تقول هذا وكأنها تخاطب (لا تعزي) ذاتها؛ وذاك أنها تدري أن مقالتها فوق مستوى مداركهن..
لكن لربما (هي) تعزي.. أو بالأصح تمد ذاتها بقوة لذاك الهدف البعيد.
7- -
ما تلبث غير بعيد من أن تقعد حتى يقمن تلكم (الزغاليل) إليها، وكأن أمًّا عادت لعشها وأحضرت الطعام.. فإذا الصغار يتلكلأنّ عليها..
وكأن قربها لهن بالصف لم يشبع شبقهن لها..
إلا إن ماسسنها عن كثب.
ترفع رأسها بحذر فإذا ثغرها يشق عن ابتسام (وهي بدهشة مما ترى)، فكأن ابتسام وليد أو من حدائق ذات بهجة ما يغذي خاطرها بما يزيد من سلبه! فيما هي لا تبرح تنادي:
(مها...) عودي لمقعدك! فترفع حاجبيها بإشارة عدم اكتراث
(سناء...) خذي صاحباتك إلى حيث كنتن! فتبدي بهزة كتفيها عن عدم موافقة.
(نهى...) وبعدين معاكن!
فلا استجابة
(منتهى...) منتهى صبري بلغ
نريد نبدأ الحصة.. يا الله!!
وهن يتضاحكن، ولا مجيب..
طيب، يا:
(دانة..) ريانة نفدت مصابرتي
(وهي تعض الأنامل)، وتكاد تخفي ضحكات كاتمتها من مشاهد.. هي خليط من دعابات الصغار
وحنان يبثثنه، وظاهره خليط شقاوة (لذيذة)، هي أول من يستعذب منهن صنائعها.
.. تحاول كرَّة أخرى فتتصنع الجدية بـ:
وبعدين...؟
لكن...
التفتت، يا الله! ماذا تفعلن؟
فإذا حقيبتها مع إحداهن، والأخرى تحاول أن (تغيص) يدها بها، وثالثة فضول نظرها يكاد يخرق جلد الحقيبة
له.. وبعدين معكن حبيباتي..
وما إن قالت اللفظة الأخيرة إلا
وكأن سحر نطقها -لها- أوقف الطير على رؤوسهن..
إذاً عرفت مفتاح قلوب الصغيرات..
8- -
سحبت حقيبتها بهدوء
وبلطف اعتدنه منها أن سيّرتهن بكفيها الضارعتين.. مع رجاء مصحوب بدعاء.. وأن إلى مقاعدكن امضين، فانصعن على ترهل بالخطأ
لكن وكأن حركتهن الأولى مرامها إشباع من هذه التي كلها رقة وحنان ونفس هي (من قبل) ذائبة مع هذه الخمائل، ولسان منطقهن لو نطق لنشر عما يكنن لها.. ولو بإيجاز سبقن إلى تجديله:
يا (ظبية البان) ترعى في خمائله
ليهناك اليوم أن (القلب) مرعاك
القلب.. هذا الذي من سنا معلمتهن وطيب ذاتها وحده بالغالب شع لها إليهن (كوّة)..
وإلى تلقاء قلوبهن أسهم حب يشققنه دون الجلود.
- عبدالمحسن المطلق