حضن دافئ ">
وقفت أمام الباب مترددا, أطرقه أم أولي هارباً! كنت قد تجاوزت الخمسين, حاملاً شهادة الدكتوراه الثالثة التي بالكاد وجدت مكاناً فارغاً في جدار مكتبي الأملس, لتصطف مع أخواتها الأكبر منها سناً. زوجتي بخصال شعرها الأشقر الفار من الغطاء وعيناها الزرقاوان تنظر في سيارتي الفارهة تنظر إلي حانة وتبتسم حانة أخرى وهي تنظر لجوالها.
أبنائي في الكرسي الخلفي كلاً بجهازه, مسحورين مفتونين لا يدرون ما بي. بيد خائرة طرقت الباب الذي أضحى أحمراً ذا فراغات تنفذ منه الرياح، أذكر أنه كان أسوداً لامعاً. لا مجيب حتى الآن.
طرقت الباب مرة أخرى بقوة اكبر, لا مجيب, هممت بالذهاب فرحا, خطوت إلى الوراء استوقفني صوتا رخيما حمل عبق الزمان ودموعه: من؟ رددت لا شعورياً: أنا. فُتح الباب وإذا بامرأة اكتسحت بالسواد لا يبان إلا عيناها الغائرتان وجبهة بتشققات كأرض طينية لم تقبل الماء منذ دهور.
فالح! أهذا أنت! بصوت دافئ تحدثت. سرت بي رجفة، أحسست بركبي لا تقوى على حملي. احتضنتها, أحسست بماء دافئ يجري على كتفي. امتلاء جسدي براحة نسيت لذتها منذ دهر. مسحت كل همومي, أزحت كل أحزاني, عدت طفلاَ يحبو ويلهو، يرى العالم كرة بقدمه.
قبلت رأسها ويدها وهممت بتقبيل رجلها لكنها منعتني وتساءلت لاهفة وبصوتها الضعيف:
متى جئت من أمريكا؟ كيف أنت؟ كيف صحتك؟ ثم التفت ناحية السيارة قائلة: أهذه الشقراء زوجتك؟
وأومأت موافقا وأرد باقتضاب... لم لا تدخل؟ أين أحفادي؟ منكسراً رددت: إنني متوجه إلى الفيلا, تعالي معي, اسكني معي. أطرقت صامتة ثم قالت بصوت حزين: لا, لن اترك البيت ورائحة أبيك تملئه.
رددت عليها ونظارات زوجتي تجرني: سأعود لزيارتك..
حتما سأعود في ظروف أفضل. ومن أمام الباب تفارقنا, لسانها لم يفتأ عن الدعاء لي ولكن الظروف لم تتحسن أبداً..... وكانت تلك، آخر مرة أراها، تتنفس الحياة.
- علي محمد الماجد