أسعد الله أوقاتكم بكل خير:
عندما دعاني الدكتور سعود الكاتب رئيس اللجنة الثقافية لمعرض جدة الدولي لـ (الكتاب).. للمشاركة في ندوة (حول تجارب بعض رواد الأدب والثقافة في المملكة العربية السعودية).. فقد خيرني وحيرني: فعن تجارب مَن من هؤلاء الرواد.. أتحدث؟
وقد عرفت أغلبهم.. أو أكاد، وتوثقت علاقتي ببعضهم.. إلى أبعد مدى من الحميمية: إلى «الأبوة» من جانبهم، و»البنوة» من جانبي.. كـ (العواد) و(التوفيق) و(الضياء) و(الزيدان)، وقامت بيني وبين بعضهم - في مراحل العمر التي تلت -: صداقة الكبار نحو من يحبون من شداة الأدب وناشئته.. كـ(الفقي) والمغربي و(القنديل) و(السباعي).. لتتعمق ثانية مع الرائدين الكبيرين: (حمد الجاسر) و(عبدالله عبدالجبار) في السنوات الأخيرة من حياتهما.
لقد كان لكل واحد من هؤلاء الرواد على تفاوت القدرات والأجيال بينهم سبقاً ولحاقاً: تميزه وتفرده في رحلة إبداعه: العواد.. إن دعا، والزيدان.. إن ارتجل، والضياء إن ترجم أو كتب، والتوفيق.. إن تأمل، والقنديل.. إن سخر، والجاسر.. إن بحث، وعبدالجبار.. إن انتقد، والفقي.. إن صبا، والزمخشري.. إن بكى، والسباعي إن أرخ أو حلُم.. وهو ما يؤهل تجربته لأن تكون موضع حديث واستعادة لي أو لسواي في هذه الندوة.
ومع صعوبة الانتقاء.. في الحديث عن أيهم، نظراً لعلاقاتي المتفاوتة مع أكثرهم.. إلا أنني سرعان ما حسمت أمري بالتحدث.. عن صاحب العلامة الفارقة بينهم: أدباً وفكراً، ترجمة وإبداعاً، وفرة وتنوعاً.. عن الأستاذ عزيز ضياء: الأديب والفنان الشامل، الذي كتب المقالة والتعليق السياسي والقصة القصيرة والطويلة والمسرحية والمسلسلة الإذاعية والتلفزيونية، والذي ترجم ما يقارب الثلاثين عملاً أدبياً لكبار كتاب العالم وأكثرهم لمعاناً وبريقاً: من «طاغور» إلى «موليير» و»ديستوفيسكي».. ومن «تولستوي» إلى «شو» و»موم».. ومن «أوسكار وايلد» إلى «أونسكو» و»أورويل» و»جان جينيت».. والذي أسماه مجايلوه من الرواد بـ (الأب عزيز) لـ(تسامحه)، و(عاطفته الكونية)، و(نظرته الإنسانية) الشاملة، وأسميته - بعد أن توثقت علاقتي به - بـ(اللورد عزيز ضياء).. نظراً لـ «غليونه» الذي لا يفارق شفتيه، وآلته الكاتبة التي يكتب بها مقالاته دون مجايليه جميعاً، وبدلته (الثري بيسيسز) التي يحرص على ارتدائها في السفر صيفاً وشتاءً، و(إنجليزيته) التي تفرَّد بها بين من جايلوه وسبقوه، وأصوات العصافير التي كنت أسمعها في مكتبه.. وهي تختلط بأنغام مقطوعته الكلاسيكية المفضلة: (الأنثى) للموسيقار الفرنسي (فرانك بورسيل).. بعد أن تستقبلني صيحات فرح (كلبيه) اللذان كانا يقفان على باب مكتبه.. لاستقبال ضيوفه ووداعهم. لقد كان (لورداً) حقيقياً.. باذخ الوفرة والغنى في كل شيء.. إلا (المال)!!
إلى جانب ذلك.. كانت لي أسبابي الموضوعية الخاصة في اختيار التحدث عنه دون سواه.. فقد كنت شاهد ولادتي ونشر آخر عملين بارزين من أعماله: قصة - أو رواية - (عناقيد الحقد) التي لم تتم كتابتها ونشرها.. وتوقفت عند حلقتها الثالثة عشرة، وثلاثية قصة حياته التي عنونها بـ (حياتي مع الجوع والحب والحرب).. وأهداها لوالدته، ووجهها لابنه، وصدرها بذلك المثل الفرنسي الرائع: (الحياة.. كـ «البصلة» يقشرها المرء وهو يبكي)..!!
* * *
فقد كان الأستاذ عزيز ضياء.. أحد أبرز كتاب (مجلة اقرأ) السياسيين الأسبوعيين الدائمين في الثمانينات من زمانات تألقها.. لا تستغني المجلة عن قلمه، ولا يستغني عن النشر فيها.. إلى أن جاءت لحظة اقترح عليَّ فيها التوقف عن كتابة مقالاته السياسية.. لإعطاء الفرصة لنشر قصة طويلة شرع في كتابتها، بعنوان «عناقيد الحقد».. تحكي قصة (مبتعث) أعيد من بعثته لـ (محاكمته) التي انتهت إلى سجنه.. وأنه يمكن نشرها على حلقات فتكون بديلاً عن مقاله السياسي الأسبوعي، فأقريته على فكرته.. في إحدى ليالي حواراتنا التي كانت تمتد إلى منتصف الليل مع أكواب الشاي والـ (إنجليش كيك).
وبدأ نشر الحلقات التي كان يرسم أحداثها بريشته مخرج المجلة: الفنان الأستاذ عبادة الزهيري.. إلى أن تم نشر الحلقة الثالثة عشرة من (القصة).. لتتحرك معها حاسة الأستاذ عزيز (البوليسية) القديمة.. فقد كان مديراً لمكتب (مراقبة الأجانب) في أواخر الأربعينات، و(وكيلاً للأمن العام) في أوائل الخمسينات من القرن الماضي.. حيث شعر بأن هناك من يعتقد بأنه (المقصود) شخصياً من تلك القصة.. وأنه سيتقدم بشكوى ضد الأستاذ عزيز و(المجلة) بعد الانتهاء من نشرها والتيقن من ظنه، فرأى الأستاذ عزيز التوقف عن استكمالها وبالتالي نشرها.. لنُحرم من قصة كانت ستقدم للأجيال صورة بانورامية شاملة عن الحياة في مكة في أواخر الثلاثينات وأوائل الأربعينات من القرن الماضي.. بقلمه العميق والدقيق.
إخواني وأخواتي
مع توقف الأستاذ عزيز عن استكمال قصة (عناقيد الحقد).. كنت أتحدث إليه بأنه آن الأوان لأن يكتب (مذكراته) السياسية بعد أن تهيب الكثيرون عن كتابتها حتى رحلوا.. خاصة وأنه كان قريباً طوال الأربعينات وما بعدها من الأحداث السياسية وتحولاتها، ومن صناع القرار من الحكام والوزراء والسفراء.. وأنها ستشمل بالضرورة قصة حياته، وقد ساعدني على تحفيزه لكتابة (مذكراته) صديقنا المشترك الأستاذ محمد سعيد طيب.. رجل شركة تهامة الإعلانية، وصاحب إدخال فكرة نشر الأعمال الأدبية لـ (الرواد) وغيرهم فيها، والتي كان لها الفضل في إنقاذ أعمال الرواد من التآكل والانقراض، والتي كان من بينها ثمانية من أعمال الأستاذ عزيز الأدبية وترجماته.. ليستجيب الأستاذ عزيز، ويبدأ في تزويد (المجلة) بالفصول الأولى من الجزء الأول.. من قصة حياته (حياتي مع الجوع والحب والحرب)، فكانت مفاجأتي.. إنها سيرة ذاتية واسعة التفاصيل.. بأكثر منها مذكرات سياسية تتخللها قصة حياته، إلا أنها قصة حياة تقوم على الأحداث السياسية التاريخية التي عاشها وعاشتها (المدينة المنورة).. والعالم بأسره مع نشوب الحرب العالمية الأولى وانطلاق الثورة العربية الكبرى (1916م).. بادئاً فيها من لحظة تسليم فخري باشا (المدينة المنورة) للشريف وجيشه، وترحيله لأهلها خوفاً عليهم.. إلى الشام على آخر رحلة لـ (سكة حديد الحجاز) إلى دمشق ومنها إلى حماة وحلب.. عندما وجد نفسه ذات صباح على ظهر (البابور) وهو بين الرابعة والخامسة مع جده وأمه وخالته وبقية أسرته.. فيما عرف فيما بعد بـ (سفر برلك)، وقد استقبل القراء حلقات الجزء الأول.. بحفاوة أسعدته بقدر ما أسعدتني، وجعلته يكمل بقيتها مطمئناً إلى جدوى ما كان يفعله، لتواصل (اقرأ) نشر حلقات الجزء الثاني من (حياتي مع الجوع والحب والحرب).. وليتوقف استكمال نشرها مع مغادرتي لـ (اقرأ)، لتستكمله (يمامة) الدكتور فهد العرابي الحارثي، ولأعكف فيما بعد على طباعة الجزءين الأول والثاني.. في كتابين منفصلين في الوقت الذي أخذ الأستاذ عزيز يعد فيه الجزء الثالث والأخير منها.. بينما كانت صحته تتراجع أمام حالات الاستسقاء المتزايدة التي أخذ يعانيها، والتي كان لا يخرج من المستشفى بسببها.. إلا ليعود إليها.. إلا أنه تحامل على نفسه وأكمل (الجزء الثالث)، وهو ما جعلني أحرص على طباعة (بروفة) له - أو بلوبرينت.. بلغة المطابع - وأحضرها له وهو على سريره.. ليقلبها،لتُأخذ صورة له أثناء ذلك.. لنشرها في إحدى الصحف ترويجاً للجزء الثالث من (حياتي مع الجوع والحب والحرب)، لكنه اعتذر لأن صحته لم تعد تساعده على ذلك، وأنه لا يريد أن يظهر لقرائه.. إلا بالصورة التي عرفوها عنه!؟ فقلت له مقدراً: فلننتظر بعض الوقت حتى تتحسن صحتك. وهو ما وافقني عليه.. وجعلني في المقابل أبرم اتفاقاً مع ابنته الإذاعية الكبيرة الأستاذة دلال.. لمراقبة حالته حتى إذا جاء اليوم المناسب هاتفني لأحضر المصور وأقدم إليه، وقد كان.. لأخبرها بأني قادم للأستاذ بعد مغرب ذلك اليوم ومعي المصور.. لأخذ تلك الصورة التي كان خيالي يصور لي بأنها ستشيع البهجة في نفسه والبسمة على شفتيه عندما يراها، وهو ما كنت أهدف إليه وأرجوه قبل أي شيء آخر.. إلا أنني وجدت أن صحته في المساء لم تكن كالعهد بها في صباح ذلك اليوم، وهو ما جعله يعتذر ثانية بلطف.. وهو يطلب مني التأجل إلى يوم آخر!؟ ولم يأت ذلك اليوم الآخر.. فقد مات الأستاذ عزيز مأسوفاً عليه.. من كل قرائه وتلاميذه ومحبيه، وترك لنا إلى جانب أعماله الإبداعية وتراجمه، والتي نافت عن واحد وأربعين عملاً إبداعياً ومترجماً.. هذه (الثلاثية) عن حياته مع الجوع والحب والحرب، والتي تتصدرها دون شك.. وهي ترقى بأحداثها السياسية وشخوصها الواقعية لأن تكون كنظيرتيها: (الحرب والسلام) لـ (ليو تولستوي) و(قصة مدينتين) لـ(شارلز ديكنز).
ليقوم الأستاذ قينان الغامدي المؤسس الصحفي لـ(جريدة الوطن)، وأول رؤساء تحريرها المعجب بتلك القصة.. بنشر جزئها الثالث بشجاعته الصحفية المعروفة.. بعد ثلاث سنوات من رحيل الأستاذ عزيز ضياء.
وبعد
فقد كان أميز ما يميز الأستاذ عزيز في قصته مع الجوع والحب والحرب.. وفي غيرها من أعماله هو (أسلوبه)، الذي يشبه العمارات الضخمة والفاخرة الشاهقة.. وتلك النضارة الفكرية التي ظل يتمتع بها عطاؤه الأدبي طيلة سنوات حياته، وتلك الـ (نعم) الحاسمة والمبكرة التي أجاب بها على سؤال القرن العشرين: أين نقف من حضارة العصر؟
والسلام عليكم.
عبدالله مناع
محاضرة ألقيت ضمن ندوة تجارب بعض رواد الأدب والثقافة في المملكة، وذلك في قاعة المحاضرات بمعرض الكتاب بمحافظة جدة مساء يوم السبت 12-12-2015م