انتقل إلى جوار ربه فجر يوم الجمعة الماضي الشيخ محمد بن عثمان الرشيد، أحد رجال المجمعة الذين تفخر بذكرهم، وتأنس بسيرتهم، وتعتز بعطائهم. فرغم فجيعة الخبر وألم المصيبة، ومقدار التأثر بين أبناء المجمعة ومحبي الشيخ، والذي يعكس مكانته وحب الناس له إلاَّ أن ما يهوِّنها هو الإيمان بقضاء الله وقدره، وسنة الله في جميع خلقه، ولن يستطيع أحدٌ أن يُغير من الأمر شيئاً, ولكن من واجبنا ذكر محاسن موتانا عرفاناً بالجميل، وتقديراً لما قدموا, وياليتنا نملك القدرة على أن نوفي شيخنا بعضاً من حقه، أو نستطيع أن نصف ما قدم لوطنه, ومدى تأثيره في مسيرة بلده، وتاريخ مدينته المجمعة، فذكر محاسن ومآثر وصفات الشيخ ستكون ناقصة, فوصفي يبقى قاصراً، ومهما بلغ حديثي من الوضوح والدقة لن يُعبِّر عن ما تُكنه قلوب أبناء المجمعة من حُب، وما يختلج في صدورهم له من ود، فقد عرفنا الشيخ منذ الطفولة من خلال حديث الكبار في المجالس عنه، وعن ما يقدمه من مواقف الوفاء لرفقاء دربه، ولأبناء المجمعة عموماً، كان المستشار، والموجه، والناصح، والمشارك في هموم الناس, فكان سبباً في فتح أبواب الرزق للكثير من المحتاجين والحائرين، رجلٌ وهبه الله المال، ومنحه حب الخير، والرغبة في العطاء وخدمة المجتمع، فكان المبادر في البذل، وتقديم العون للآخرين من خلال مشاريع خيرية، ومبان خدمية، وصروح تعود بالنفع على الجميع، فلم يبخل، ولم يستكثر ما يدفع, كان متسلحاً بقوله تعالى {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ}, حيث نجد له في كل ركن من أركان المجمعة بصمة وعملاً ومشروعاً، فنجد جامع الشيخ محمد بن عثمان الرشيد من أحدث الجوامع، وأكبرها، وأفضلها متابعة وصيانة، ومركز صحي المطار المجاور للجامع متكامل التجهيزات, والذي يقدم خدماته الصحية والتوعية والوقاية لشرائح المجتمع كافة، ومشروع دار أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - لتحفيظ القرآن الكريم, ومشروع إفطار صائم، والصالة المتعددة الأغراض ومبنى متكامل الخدمات ومجهز لتفطير الصائم , إضافةً إلى التجهيزات الطبية لمستشفى الملك خالد بالمجمعة، والدعم الدائم للجمعيات وللمشاريع الخيرية، كلها تتحدث عن كرم العطاء, وتبرهن على قيمة البذل، وتؤكد مقدار السخاء، لتبقى شواهد حاضرة لرجل رحل وترك بعده من أعمال البر والخير ما تذكره الأجيال, فلم تلهه كثرة المشاغل - رحمهالله - وتعدد الارتباطات عن مدينته، فأخلص لمجتمعه, ولم يبحث عن مجد شخصي، ولا مكانة دنيوية، أو شهرة زائلة، أو وضع اجتماعي لا يدوم, أو كلمات شكر، أو عبارات إشادة، أو شهادات تقدير، إنما قصد وجه الله سبحانه وتعالى ثم خدمة مجتمعه, فحدد هدفه، وسعى لتحقيقه، فإشاعة ابتسامة طفل محتاج، ودعوة فقير ضاقت به السبل، وتفريج كربة مسكين، وعلاج مريض, وتعليم جاهل، وتبني يتيم، وإيصال مساعدة تمثل له قمة السعادة وغاية المقصد, فلا نقول غير ما قاله سيد البشر صلى الله عليه وسلم: (من نفَّس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كُربة من كُرب يوم القيامة، ومن يسَّر على مُعسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر على مسلم في الدنيا ستر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه).
وقال (صلى الله عليه وسلم)»: الساعي على الأرملة والمساكين كالمجاهد في سبيل الله, أو القائم الليل الصائم النهار»، فمبادراته - رحمه الله -لا تحصر, وعطاءاته المباركة ليست فقط ما نشاهده من معالم بارزة، أو أعمال ظاهرة, إنما هناك أعمال لا يمكن حصرها، أو توثيقها، وتبرعات لا يمكن معرفتها، أو الاطلاع عليها.
لقد كان - رحمه الله - متواضعاً لا يضاهيه في التواضع أحد, لا يعرف التكلف في حديثه, أو لبسه، تلقائي في تصرفاته، الحكمة لديه حاضرة، يحمل في قلبه الحب للجميع, تجده يسأل عن الغائب والحاضر، يتسامى عن صغائر الأمور، ويترفع عن الحديث في الناس, مَلَكَ قلوب كل من عرفه من خلال ما يملكه من مبادئ وقيم، نبراس أضاء من حوله بالخير والإحسان، صنع الفارق بين العطاء والكسل، سعى للخير، وأسس جوانباً منه، كا ن رمز اً للعمل الخيري, قدم خدمات جليلة للمجتمع، مثّل مبدأ التكافل الاجتماعي بأرفع معانيه، وجسّد دور المواطن القدوة الذي يقوم برد الجميل لوطنه (مملكة الإنسانية)، ودولة الشريعة الإسلامية في مجتمع ترسخت فيه مبادئ العطاء، والتعاون على البر والتقوى, فكان صاحب المبادرة في البذل بعد أن استشعر معنى قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ}.
مشاعره تتدفق عطفاً, وقلبه يشع إنسانية ورحمة, مبادئه راسخة، وتعاملاته راقية، تجسدت فيه صفات الكرم والمروءة، زرع وترك لغيره جني الثمار، وحفظت أعماله في رصيده الإنساني، أهدافه بعيدة، وهمته عالية، وعطاءاته مثال يحتذى به، ومشاريعه منارات مضيئة، وأعماله شامخة عظيمة، أياديه تمتد لتخفف عن الآخرين الألم، وتحقق الأحلام، يبحث عن الأجر والثواب وخير الجزاء، أياديه تنفق لترتقي بالمجتمع، وتخدم لتعزز قيمة الفرد الفقير، والمسكين، والمحتاج، والمريض، والمعاق، وحافظ القرآن، ينفق سراً وعلانية, ويتبع قوله سبحانه {قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْالصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَنيَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ}.
رجل يستحق أن يحفر اسمه في ذاكرة الأجيال لتكن سيرته مثالاً يحتذى، وحياته قدوة، فقد شق طريقه في الحياة بنجاح رغم صعوبات الظروف وتقلبات الزمن، وأن نقدم له الشكر بكل أشكاله، والعرفان بكل ألوانه، وأن نُشيد به في كل محفلٍ، وأن نُشهر أعماله بكل الوسائل، ونكتب سيرته بحروف من ذهب، ونتحدث عن عطاءاته دائماً، وفاءً, وعرفاناً, وتقديراً، وحباً، ليكون واجبنا له الدعاء بالمغفرة، والقبول بعد أن ترك بعده أعمالاً خالدة، وصدقات جارية، وأوقاف دائمة، كما ترك بعده - رحمه الله - جيلاً من أبنائه الذين ساروا على النهج نفسه، وسلكوا الدرب نفسه؛ ليصبحوا امتداداً من الوفاء، ونهراً متدفقاً من العطاء، وتاريخاً يُسجل من البذل والسخاء، لتقف أعمال الأستاذ عثمان بن محمد الرشيد - رحمه الله - الخيرية في عدد كبير من المجالات، شامخةً وشاهدةً على هذا الامتداد، سائلين الله العلي القدير لشيخنا الجليل الرحمة والمغفرة، وأن يجمعنا به في جنات النعيم {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
ناصر بن إبراهيم اليوسف - مدير العلاقات العامة والإعلام الجامعي بجامعة المجمعة - أمين عام نادي الفيحاء