رغم الزيادة..المملكة تتصدَّر دول العالم في رخص أسعار البنزين الممتاز ">
الجزيرة - وحدة الأبحاث والتقارير الاقتصادية:
تزامنَ مع الإعلان عن أرقام الموازنة السعودية إعلانٌ آخر أكثر أهمية، وهو إعادة هيكلة منظومة دعم الوقود والمياه والكهرباء، وهذه الهيكلة تُعتبر أولى الخطوات في سلسلة من التدابير الاقتصادية التي تم التصريح عن إطلاقها، والتي من أبرزها إعادة تقييم الدعم الحكومي. ما هي تلك التدابير.. وما هو شكل تلك الهيكلة الجديدة.. وما مداها الزمني.. وتداعياتها على المواطن.. وهل يمكن أن تترك تأثيرات على الشركات السعودية؟.. إنها تساؤلات كثيرة ومتعددة تصل إلى حد التخوف من وجود تأثيرات سلبية لتلك الهيكلة، وبخاصة أن منظومة الوقود والمياه والكهرباء الرخيصة أصبحت نمطاً للحياة بالسوق المحلي نظراً لطول الفترات الزمنية التي تم العمل بها فيه. إن السؤال الأهم هو :لماذا جاءت البداية بهيكلة أسعار الوقود أو المنتجات البترولية؟.. وهل الأمر يرتبط بالأسعار العالمية للنفط التي طرأ عليها التراجع.. أم يرتبط بترشيد وكفاءة جانب رئيس من فاتورة الإنفاق الحكومي تتضمّن العديد من أوجه الهدر؟
لماذا البداية بالوقود؟
«الوقود» يُمثّل المادة الخام الرئيسة المستخدمة في إنتاج غالبية السلع والخدمات في كافة دول العالم، وهي البنزين.. فالبنزين هو عصب الحياة الاقتصادية سواء في تشغيل وإدارة المصانع أو في النقل والمواصلات أو كعنصر رئيس في البناء والتشييد، وغيرها.. وهذا المنتج يدخل كمكون رئيس في كافة السلع والخدمات، وبالتالي فإن الهدر فيه يتسبب في هدر في هذه السلع والخدمات بشكل أو بآخر لذلك، فإن ترشيد الهدر كان لا بد أن يبدأ من الوقود ولا بد أن نعلم أن جزءاً رئيساً من تنافسية السلع والخدمات بالسوق المحلي أو السلع المصدرة إنما تدفع فاتورتها الدولة متمثّلة في دعم أسعار الوقود.
سوء استغلال الأسعار المنخفضة للبنزين.. وضياع الدعم
رغم أن سعر جالون البنزين يُباع بسعر 10.0 دولار في تركيا وبنحو 3.52 دولار في الولايات المتحدة، وحوالي 3.6 دولار في روسيا ونحو 1.77 دولار في الإمارات، وكلا الدولتين الأخيرتين تُعتبران من الدول المنتجة الرئيسة، فإن سعر بيعه في السعودية لا يتجاوز 0.45 دولار. إن الأمر ليس مجرد معرفة سعر الجالون من البنزين في كل دولة، ولكن الأمر الأعلى أهمية هو تأثير هذا السعر صعوداً وهبوطاً على معدلات استهلاك الفرد، ففي تركيا نلحظ أن متوسط استهلاك الفرد من البنزين يسجل المعدل الأقل عالمياً بمتوسط لا يزيد على 0.03 جالون للفرد، على النقيض يرتفع بشكل واضح في السعودية ليسجل حوالي 0.63 جالون للفرد، أي بما يعادل 21 ضعفاً مثيله في تركيا، ويُعتبر انخفاض السعر في السعودية العنصر المفسِّر لهذا التفاوت في معدلات استهلاك البنزين في كلا الدولتين.
وبالطبع لا يخلو هذا المعدل المرتفع لاستهلاك البنزين بالمملكة من هدر نتيجة استخدامات في مصادر أقل أهمية، وربما في استخدامات غير ضرورية وربما يكون استخدام البنزين، كبديل عن مصادر وقود أخرى ليس لشيء سوى بدافع الاستفادة من انخفاض السعر.
فاتورة دعم الوقود بالمملكة.. وضرورات الهيكلة
تشير إحصاءات صندوق النقد الدولي وبعض التصريحات الرسمية بالمملكة إلى أن دعم المحروقات بالمملكة يُناهز حوالي 450 مليار ريال حالياً، وإن كانت بعض المصادر ترجّح صعوده إلى حوالي 500 مليار ريال في 2015م، أما مستوى هذا الدعم في الإمارات العربية لا يتجاوز 112 مليار ريال سعودي، وقد بدأت الإمارات في خطة لهيكلة جدول دعمها للوفود، والآن تطلق المملكة خطة شاملة لهيكلة منظومة دعم الوقود بالسوق المحلي خلال فترة خمس سنوات. بعض الدول أزالت دعم الوقود منذ عقود طويلة ومنها الدول الأوربية، والبعض الآخر بدأ يُهيكل ويُعيد النظر في هذا الدعم خلال الآونة الأخيرة، مثل الإمارات، وكثيرٌ من هذه الدول تُعتبر منتجة للنفط، وكثير منها تفضل عدم دعم أسعار الوقود وبيعه بالسعر العالمي وادخار مثل هذا الدعم لمصادر إنفاق حكومية أعلى أهمية. وبسهولة جداً يمكن إدراك أن الدعم الحكومي للبنزين حالياً يهدر بالمعدل الأكبر إما في استخدامات شخصية غير ضرورية، وجزء كبير منها تحدث من جانب المقيمين، أو ربما يحدث الهدر في القطاع الخاص نتيجة استخدامات غير كفؤة رغم أن القطاع الخاص ينبغي أن يعتاد على العمل بكفاءة وفعالية بدون سلاسل دعم حكومي مستمرة.
إن مشكلة دعم الوقود بالمملكة لا تعتبر في نهايتها الآن، ولكن الواقع يشير إلى أنها مؤهلة للزيادة بتزايد عدد السكان، وبتزايد حركة العمران، فضلاً عن امتداد سلاسل الطرق البرية التي تتميز بها المملكة في كل ربوعها، فالآن تقوم الحكومة على قدم وساق لبناء مليون وحدة سكنية خلال سنوات قليلة، وسيتم إنشاؤها غالباً في امتدادات المدن الكبرى الحالية وجميعها تحتاج للمزيد من استهلاك المحروقات سواء في البناء والتشييد أو في النقل والمواصلات، وبالتالي لو استمر المعدل الحالي لاستهلاك الفرد من البنزين، لتوقعنا أن تحتاج المملكة إلى ضخ ما يناهز 700 مليار ريال قريباً كدعم للمحروقات، منذ عامين لم يكن هذا الدعم يمثّل مشكلة حقاً في ضوء ارتفاع الأسعار العالمية للنفط، إلا أن تراجع السعر العالمي بمعدل يناهز 50% حالياً، يوجب التفكير في ضرورة مراجعة هذا الدعم، أولاً نظراً لتراجع الإيرادات النفطية، وثانياً لتخفيف الهدر الحالي والمحتمل في استخدام هذه المحروقات عموماً بالمملكة.
هيكلة أسعار الوقود
تضمنت قائمة تعديل دعم أسعار الوقود قائمة طويلة من التعديلات، ولكن ليست جميعها من الأهمية لكل المواطنين والشركات وسنركز هنا على أبرز التعديلات التي تمس المواطن مباشرة وكذلك تلك التي من المتوقع أن تؤثر بشكل جوهري على أداء شركات القطاع الخاص. المواطن.. وتداعيات هيكل أسعار البنزين الجديد.. بالنسبة للمواطنين، فإن أهم تعديل يرتبط بهم مباشرة هو تعديل أسعار البنزين، حيث يشير إعلان وزارة المالية إلى أنها ستعدل على ما يلي:
) بنزين 91 من سعر يبلغ 0.45 إلى 0.75 ريال - لتر بارتفاع يبلغ 66%.
) بنزين 95 من سعر يبلغ 0.60 إلى 0.90 ريال - لتر بارتفاع يبلغ 50%.
أي أن القرار تمثّل في رفع أسعار البنزين 30 هللة لـ «للتر الواحد».. فما هو تأثير ذلك على متوسط تكلفة المعيشة للمواطن العادي؟
كل المواطنين يستخدمون البنزين كوقود لسياراتهم، ولو افترضنا أن المواطن يحتاج إلى تعبئة تانك سيارته 4 مرات في الشهر، وهي بسعة 60 لتر.. ولو افترضنا أنه يستخدم بنزين 95، فإنه يمكن حساب الفرق في التكلفة بناء على السعرين القديم والجديد على النحو التالي:
حساب التكلفة الجديدة: 0.9 * 60 = 54 * 4 مرات = 216 ريالاً في الشهر
حساب التكلفة القديمة: 0.6 * 60 = 36 * 4 مرات = 144 ريالاً في الشهر
أي أن التكلفة ستزداد من 144 إلى 216 ريالاً في الشهر بواقع فرق 72 ريالاً أو بنسبة زيادة50%.. البعض قد يرى أن هذه النسبة مرتفعة، ولكن هذه النسبة ليست مرتفعة إذا علمنا أنها يمكن أن تحسن كفاءة استغلال البنزين لكل الأفراد في السوق، فالبنزين الرخيص قد يدفع البعض للاستهانة بقيمته، أو في استخدام سيارته بطريقة غير كفؤة.
الشركات وتداعيات منظومة الديزل الجديدة
بالنسبة لشركات القطاع الخاص، فإنها من المتوقع أن تتأثر بالعديد من تعديلات المنظومة الجديدة للوقود، والتي من أهمها ما يلي:
- الغاز دولار - لكل مليون وحدة حرارية بريطانية (1,25 دولار أمريكي)
- كيروسين دولار - برميل (25,75 دولار أمريكي)
- ديزل (الصناعة) دولار - برميل (14,00 دولار أمريكي)
- ديزل (النقل) دولار - برميل (19,10 دولار أمريكي)
وتشير التقديرات إلى أن زيادة أسعار الديزل تقدر في المتوسط بنسبة 80%، وهو يمثل البند الأعلى أهمية للشركات تقريباً.. فقد بلغت مبيعات الديزل خلال العام الماضي حوالي 11 مليار ريال، ومتوقع أن تصل إلى حوالي 19.8 مليار ريال.
الشركات ومنظومة الغاز الجديدة
يلعب الغاز الطبيعي بالمملكة الدور الأهم كلقيم للتصنيع النفطي، وعليه فإنَّ كافة إنجازات التصنيع النفطي تقوم بصفة أساسية على الغاز الرخيص أو المدعوم من الدولة، والذي يُمكن صناعة البتروكيماويات عموماً من المنافسة في السوق العالمي.. ففي حين يباع الغاز المقدم للمصنّعين بسعر يناهز 0.75 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، في مقابل سعر لا يقل عن 3.5 دولار بالسعر العالمي ويزيد في بعض الدول.. لدرجة أن المملكة تكاد تستهلك غالبية غازها الطبيعي دعماً للمصنّعين.. وتصل قيمة فاتورة هذا الدعم إلى حوالي 107 مليارات ريال، ويستهلك فيه تقريباً كامل كميات الغاز المنتجة بالمملكة. في ظل المنظومة الجديدة لأسعار الغاز يرتفع السعر ليصبح بنحو 1.25 دولار أي سيزداد 66.6%، ورغم أنها نسبة ليست قليلة، إلا إنها لا تزال تستمر بأن تجعل أسعار الغاز بالمملكة تنافسية وأقل من مثيلاتها كثيراً في السوق العالمي.
تكلفة المنظومة الجديدة على الأسرة السعودية
تتمثّل متوسطات الزيادات في أسعار للبنزين (91 و95) في المتوسط بنحو60% للبنزين وحوالي80% للديزل، وحوالي20% للكهرباء وتشير تقديرات أحد الخبراء إلى أن متوسط الزيادة المتوقعة في مدفوعات عائلة سعودية متوسطة (5 أفراد) يبلغ قرابة الـ6000 ريال سنوياً بما يعادل 500 ريال شهرياً ولو افترضنا أن متوسط دخل هذه الأسرة هو 6000 ريال، فإن معدل الزيادة في التكلفة المعيشية للمواطن يصل إلى حوالي 8.3%.
التداعيات الإيجابية غير المباشرة لارتفاع الوقود
التأثير السلبي المباشر المحتمل هو شعور بعض شرائح المواطنين من أصحاب الدخول المتوسطة ببعض التكلفة الإضافية إلا إن هذه التكلفة الإضافية يمكن أن تترك تأثيراً إيجابياً في تقليص معدل استهلاك الفرد من البنزين تحديداً ًوالذي يُعتبر مرتفعاً بشكل كبير عن مثيله في الدول الأخرى.
أما التأثيرات الإيجابية غير المباشرة، فإنها كثير ومتعددة وأعلى أهمية للمواطنين، والتي من أهمها ما يلي:
أولاً: تأثيرات إيجابية على البيئة نتيجة تقليل التلوث الناتج عن الإفراط في استخدامات الوقود.
ثانياً: تأثيرات إيجابية على تقليص استخدامات الطرق وتخفيف الضغوط على البنية التحتية لشبكات الطرق والمواصلات.
ثالثاً: تأثيرات إيجابية على تقليل الازدحام المروري وتقليص تكاليف الحوادث المرورية الناتجة عن الإصابات أو الوفاة، فرخص أسعار الوقود تحفز على استخدامات غير رشيدة لوسائل النقل بكافة أشكالها وتتسبب في تكاليف باهظة للدولة نتيجة ارتفاع معدلات الحوادث المرورية بالمملكة.
التزامن والتأثير السلبي
في المنظومة الجديدة للوقود
رغم أن هذه المنظومة اقتصادياً جاءت متأخرة بعض الشيء، ورغم أنها تصب في صالح ترشيد الإنفاق الحكومي وتقليص معدلات الهدر في الدعم المقدم ورغم أنها أيضاً يمكن أن تحسن من قدرة الحكومة على إيصال الدعم إلى مستحقيه بالفعل إلا إن تزامن إطلاقها في آن واحد يظل محل تحفظ، لأن هذا التزامن يتنافى مع مبدأ التدرج في تحميل المواطن والشركات لزيادات متعددة في آن واحد، فإطلاق الزيادات في أسعار الوقود والكهرباء والمياه في آن واحد سيضع المستهلك في حالة من الارتباك نتيجة التعود على الحصول على هذه الخدمات الضرورية بأسعار رخيصة. كذلك الحال بالنسبة للشركات، تثار بعض الشكوك نظراً لعدم قدرة بعض الشركات التي تمثّل تكاليف الوقود والكهرباء والمياه نسبة تزيد على30% من فاتورة نفقاتها التشغيلية، تثار الشكوك حول عدم قدرتها على تحمل الارتفاع المتزامن في وقت واحد، فقد تجابه بعض الشركات ارتفاعاً في نفقات هذا الجزء بمعدل يصل إلى 53% أي أن كل 10 ملايين ريال سيكون فيها 3 ملايين ريال نفقات تشغيلية للوقود ستصبح حوالي 4.6 مليون ريال، أي أن مجمل النفقات التشغيلية سيرتفع إلى حوالي 11.6 مليون ريال.
وتوصي وحدة الأبحاث والتقارير الاقتصادية بـ»الجزيرة» بضرورة طرح الهيكلة على فترات زمنية متباعدة، والسعي لإعداد جداول خاصة للشركات التي تستخدم ضمن مكوناتها أكثر من خام من الوقود يدخل في منظومة رفع الأسعار، حفاظاً على تنافسية هذه الشركات وإبقائها في السوق.