يعجز القلم عن تسطير ما أكنه من محبة وتقدير لوالدي - رحمه الله - الذي كان لي بمنزلة المعلّم الأول في هذه الحياة؛ فلكم استفدت من مدرسته الفريدة والثرية بأعماله الجليلة والخفية، حتى وهو مسجى على فراش الموت:
لقد كانت في حياتك لي عظات
وأنت اليوم أوعظ منك حيا
وفي هذه الإلماحة السريعة أذكر مواقف من حياته - رحمه الله - قد استوقفتني كثيراً، وما زالت ماثلة أمام عيني عالقة في ذاكرتي، مدوناً لها في هذه المقالة لتبقى خير موروث تختزنه ذاكرة أبنائي وبناتي وأحفادي رجاء أن يقتدوا بها لإنارة حاضرهم ومستقبلهم:
لم يبقَ شيء من الذكرى نخبئه
إلا الحنين ودمع في مآقينا
ومن جملة هذه المواقف والذكريات لوالدي - رحمه الله تعالى -:
* حرصه على حضور مجالس العلم وحِلق الذكر بالمسجد الحرام، وكان كثيراً ما يصطحبني معه في صغري لحضور هذه المجالس العلمية بأروقة الحرم وساحاته، ولربما اعتراني النوم أثناء الدرس والشيخ يشرح، ولا أفقه ما يقول:
مجالس العلم تروي كل قصتنا
إن قلت حدثنا يحيى وسفيان
* حبه وإجلاله لأهل العلم، ودعاؤه لهم، وتأثره بوفاتهم. وحين بلغه خبر وفاة سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - جلس يبكي ويقول: «ما العيش بعد هؤلاء».
* كان - رحمه الله - كثير العبادة؛ فلا يترك صيام الاثنين والخميس والأيام البيض والقيام في جوف الليل مناجياً ربه سبحانه وتعالى:
عباد ليل إذا جن الظلام بهم
كم عابد دمعه في الخد أجراه
* قضى حياته في مجاورة البيت الحرام، ونادراً ما يسافر، وكان يعمل في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمسجد الحرام، وإمامة مسجد حي «العتيبية» بجوار منزل الشيخ محمد السبيل أمام الحرم - رحمه الله -.
* يحرص على التبكير لحضور الصلاة؛ فيذهب قبل الأذان للمسجد، ولاسيما صلاة الجمعة، التي يرتب لها من الليل بتجهيز ملابسه وبشته وأدوات التنظيف، ويغتسل مبكراً، ويتبخر، ثم يذهب لحضورها في حدود الساعة التاسعة صباحاً، ولديه نسخة من مفاتيح الجامع ومسجد الحي.
* بنى - رحمه الله - مصلى خاصاً بمنزله لأداء السنن وقيام الليل وقراءة القرآن، أشبه ما يكون بالخلوة، كثيراً ما يجلس فيه.
* يتابع بشدة إذاعة القرآن الكريم عبر المذياع، ولا تغلق في غرفته إلا عند سفره، ويستمع كثيراً للقارئ الشيخ محمد سعيد نور - رحمه الله - وهو لمن لا يعرفه من السودان، وعاش في مصر، وكان له أسلوب متفرد في القراءة، وقد انتقل إلى الكويت، وعاش فيها إلى أن توفي بها.
* قام - رحمه الله - ببناء مسجد في مكة المكرمة على سفح جبل (بريع ذاخر)، وكان كثيراً ما يعتني به، وبترميمه، ونظافته، وجلب المصاحف له، وتجديد فرشه وأدواته الكهربائية، وسداد فواتيره.. إلى أن لقي الله تعالى وهو سعيد بذلك:
سل الجبل الذي أبقاه حياً
بمسجده وسل أين الإخاءُ
وسل عنه الحجون وسل طريقاً
لسالكه بذي الدنيا نجاءُ
* يحب الدعابة، ويمزح مع من يعرف، مع عدم المجاملة، وحرصه على كلمة الحق. وله في ذلك قصص كثيرة، يعرفها بعض الأقارب والمقربين إليه.
* يحرص على صلة أقاربه وأرحامه، ويتخولهم بالزيارة بين الفينة والأخرى، ويتفقد أحوالهم، ويهدي لهم على قلة ذات اليد، وربما استدان من أجل بعضهم لقضاء حاجته. ويحرص أيضاً على كفالة الأيتام ومساعدتهم.
* كان لديه دكان صغير في آخر منزله بحي (العتيبية) من الجهة الشرقية لبيع الحلوى، وغالباً ما يقوم بتقديم شيء منها للكبار والصغار بالمنزل، وكذلك عند قدوم أحفاده احتفاءً بهم.
* غالباً ما كان يأخذ معه حلوى في جيبه لتوزيعها على الأطفال أثناء الطواف بالحرم، وحين زيارته بعض أقاربه بالأحياء الشعبية بمكة.
* عُرف - رحمه الله - بكرمه وسخائه. ومن شدة كرمه حرصه على إسكان بعض أقاربه في بيته، الذين يأتون لمكة ولا مأوى لهم، لحين تحسن ظروفهم، فينتقلون برغبتهم طائعين.
* يحرص كثيراً على إيقاظ جيرانه لصلاة الفجر قبيل الأذان بنصف ساعة تقريباً، وذلك بطرق أحد أعمدة الحي بعصاه، وكان ذلك ديدنه:
وسائل عن عصاه بيوت قوم
إذا أقعى عن الفجر الأداءُ
* كان لديه قطيع من الغنم يرعاها، ويشرب من ألبانها كل ليلة، ويقوم بذبح بعضها إكراماً لضيوفه، وتصدقاً على أقاربه وجيرانه.
* كثيراً ما يحكي لنا - رحمه الله - سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وشيئاً من مواقفه الخالدة عبر التاريخ الإسلامي، وبعد برهة من الزمن يقوم بسؤالنا عن هذه المواقف؛ ليتأكد من رسوخها في أذهاننا، كقوله لنا مَنْ هو الفاروق؟ وما هي كنيته؟ وما ذلك إلا لشدة حبه وإعجابه بهذه الشخصية الفريدة من نوعها:
فمن يباري أبا حفصٍ وسيرته
أو من يحاول للفاروق تشبيها
* حين توفي - رحمه الله - حضر جنازته العديد من الأخيار والإخوة الفضلاء من أماكن شتى، تلهج ألسنتهم بالدعاء له وذكر مآثره. والحمد لله الذي جعل لك يا أبتي لسان صدق في الآخرين:
ليهنك ما رأينا من شهود
بأرض الله كلهمُ ثناء
فرحمك الله يا أبي، وغفر لك، وتغمدك بواسع رحمته، وأوفدك وفادة المقبولين، ورفعك في عليين، وجمعنا بك في جنات النعيم.. اللهم آمين.
خالد بن محمد الأنصاري - عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية وعضو الجمعية السعودية للدراسات الدعوية