محمد بن إبراهيم فايع ">
سيبقى الحديث ذا شجون عندي كلما تهادت إلى سمعي ذكريات المعلمين الرواد في منطقة عسير وحكاياتهم، ومن زاملهم من معلمي الجيل الثاني، ممن اشتغلوا بالتعليم في فترة صعبة، لم يكن فيها التعب والمشقة والصعوبات آنذاك؛ إلا طعما حلوا يسري بحلوقهم يجدون طعمه كلما جرت أحاديثهم عن ماضيهم الجميل، وما ذلك إلا كونهم (عاشقين لما يقومون به من رسالة التربية والتعليم لأبناء مجتمعهم) أحسست هذا بكلام المعلمين الرواد وتلاميذهم ممن زاملوهم فيما بعد، وهم يروون لي حكايات ومواقف وقصصا، لم تبرح ذاكرتهم تعزف لحنا شجيا لهاتيك الأيام، ولسان حالهم قول عبدالله البردوني (وأحمل الذكرى من الماضي كما.. يحمل القلب أمانيه الجسام) مما جعلني منجذبا لسماع الكثير منها دون ملل عن حياتهم ومواقفهم كلما سنحت لي فرصة لقائهم، ولسان حالي يقول (حدثتني يا سعد عنهم فهجت لي.. فزدني من حديثك يا سعد) فحياتهم العملية التي عشقوها وتفانوا من أجلها، كان كل ما فيها كما يبدو لي درس للأجيال الحاضرة ورب البيت لو علموه لنهلوا من معينه وما شبعوا من أدب حديثهم، ورقي سلوكهم، وسعة ثقافتهم، فضلا عما تميزوا به من حب الاطلاع، وحسن خطوطهم، واهتمامهم بهندامهم، ودقة تعبيراتهم، وسلامة كتاباتهم من الأخطاء، وعلو أخلاقهم، وحنينهم لأيام وسنوات قضوها في مدارسهم، وشدة حرصهم وجديتهم على أعمالهم، ولم يكن لشح الموارد آنذاك، وتواضع الإمكانات في بدايات انتشار التعليم قبل نشأة وزارة (المعارف) حينما كانت تسمى (مديرية) وبعيد نشأتها عام 1373هـ، وكان يطلق اسم «معتمدية» على «إدارات التعليم حاليا» ولا قلة الرواتب المعطاة لهم، ولا تواضع المباني المدرسية، وقلة التجهيزات المدرسية، وصعوبات أخرى؛ إلا أن تتوارى وراء (حبهم) لا، بل (عشقهم) لما يقومون به، ولم تتحول لشكوى يحملونها، وأسطوانة تذمر ينشدونها، حتى بلغ ببعض المعلمين الرواد، كما قال لي أحدهم، أنه كلما دنا موعد الإجازة الصيفية، تغشّاهم الحزن، وتلبسهم ألم الفراق لأجواء المدرسة، وبسبب وداعهم لزملائهم من المعلمين العرب، الذين كانوا يشدون أمتعة السفر لزيارة بلدانهم، وقد امتلأت أعينهم بالسواقي لهفة عليهم، وكأنهم وهم يودعونهم من قال فيهم المتنبي (فواحسرتا ما أمرّ الفراق.. وأعلق نيرانه بالكبود) وأتذكر في مساء ذات شتاء مضى، أن قال لي أحد المعلمين من الرعيل الأول، صحيح أننا لم نكن نلّم بالكثير من المصطلحات التربوية التي تردد اليوم بين الأجيال الحالية من المعلمين، ولا تلك النظريات الحديثة في التدريس قد وصلت إلينا، لكننا كنا نؤدي بشكل جيد مهامنا التدريسية، ونرعى الجوانب التربوية، ونتابع طلابنا، ونلتزم بقيم العمل، وبما يجب أن تتسم به شخصية المعلم، لكونه القدوة في المظهر وطريقة الكلام، والسلوك بشكل عام، وأنا أعتقد جازما أن التزام الرعيل الأول من المعلمين بهذه السمات، هي ما أكسبتهم المكانة التي جعلت منهم في ذلك الوقت يتسنمون قيادة المجتمع في كل قرية ومدينة، وجعلت بعضهم لا يزال (حيّا بسيرته وذكره في قلوب طلابه) وكلما جاء ذكرهم، جادت القلوب بالدعاء لهم، ولا يزالون يحظون بالتقدير والاحترام، حتى جعلت شوقي يقول لأجلهم (قم للمعلم وفّه التبجيلا.. كاد المعلم أن يكون رسولا) لا بسبب (الفلكة) كما يظن بعضنا؛ وإلا لوجدنا بعض المعلمين الجلادين اليوم يلقون الاحترام من طلابهم، بدلا عن تحديهم لهم، ولا يعني كلامي التقليل من شأن المعلمين اليوم ففي كل خير، لكن لا يمكن إنكار غياب مكانة المعلم اليوم، ومهابته بسبب عوامل كثيرة، قد يكون أحدها من أساء للتعليم من بعض منتسبيه، لذا فجيل الرواد من المعلمين، يجب أن يبقى لهم التقدير، وأن يستفاد من عصارة أفكارهم في لقاءات وجلسات، فهم جيل أمانة لا يعوض ولا يمكن نسيانهم.