تعدّ المتاحف، على اختلاف أنواعها، أوعية حافظة لذاكرة المجتمع، وتاريخه، وموروثه الثقافي، كما أنها تمثّل مراكز تثقيفية وتعليمية مهمة، وتضطلع بدور مهم في غرس الشعور بالانتماء وتقوية الهوية الوطنية. كما أن للمتاحف دور آخر في التقريب الثقافي بين الحضارات المختلفة، وإذابة الهوة بينها في إطار عام وشامل يحكي قصة الإنسان، وكيف عاش، وكيف فكّر، وكيف قام بتطوير حياته وفنونه، وصناعاته عبر تاريخه على الأرض.
والمتاحف لم تعد كما كانت من قبل، حاوياتٍ أو مخازن ينوط بها حفظ مقتنياتها من الآثار والأعمال الفنية، وعرضها للجمهور ليستمتع بمشاهدتها، بل أصبح لها دور إضافي لا يقل أهمية عن هذا الدور ويتمثل في نشر الوعي الأثري والفني والتاريخي، وتعميقه لدى مختلف قطاعات المجتمع.
ووجود المتاحف الخاصة، المملوكة من قبل أفراد أو جهات غير حكومية، في مجتمع من المجتمعات، جنباً إلى جنب مع المتاحف العامة، الوطنية منها والإقليمية، دليلٌ على رقي هذا المجتمع ووعيه بالتاريخ والحضارة، وإدراكه لأهمية التراث وقيمته. ولا يقل دور هذه النوعية من المتاحف، عن المتاحف العامة، في الحفاظ على الإرث الحضاري ونشر الوعي بأهمية التراث، وتعميم المعرفة والثقافة المتحفية، وتنشيط الحركة الفنية والعلمية في المجتمع، وكذلك تنمية الذوق الفني والحس الجمالي لدى الفرد والمجتمع. كما لا يغفل دورها كعنصر من عناصر الجذب السياحي، حيث لا تقتصر مساهمتها في تنمية قطاع السياحة الداخلية فحسب، بل وفي قطاع السياحة الوافدة.
والعديد من المتاحف الخاصة تعاني من مشاكل كثيرة ومتنوعة سواء منها ما يتعلق بأمن وسلامة المباني المتحفية ذاتها، وأغلبها لا تعدو مبان خاصة، وربما قديمة، لم يتم تصميمها على أساس كونها مباني متحفية يتوفر فيها متطلبات المبنى المتحفي من حيث الموقع، والتصميم. وغالباً ما تتعرض هذه المباني، أو المتاحف، لمهددات طبيعية قد يكون لها بالغ الأثر سواء على المقتنيات، وخاصة العضوية منها ذات الأصل النباتي أو الحيواني، وكذلك على المبنى المتحفي ذاته، الذي غالباً ما يكون من الطوب اللبن الذي تفتقر عناصره الإنشائية من أساسات وأرضيات وجدران وأسقف إلى ما يؤهلها لمقاومة هذه التهديدات.
الأخطار البيئية
تشكل الأخطار البيئية تهديداً خطيراً على المبنى المتحفي وعلى مقتنياته. ومنها الأمطار، وخاصة الغزيرة والمتواصلة، التي غالباً ما تؤدي إلى تفكك مونة البناء، وتساقط ملاط الحوائط، بالإضافة إلى تأثيرها المهدد لأساسات المبنى. كما أن تسربها من خلال الأسقف يشكل تهديداً مباشراً على المقتنيات المتحفية المختلفة. وتعد الأمطار مصدراً مباشراً للرطوبة الجوية في أجواء المتاحف، ووجودها بصورة مستمرة يتسبب بمرور الوقت في حدوث أضرار فيزيائية وكيميائية خطيرة. ولعل أبرز هذه الأضرار تحلل المقتنيات العضوية، مثل: المخطوطات، والأخشاب، والجلود، واللوحات الفنية المختلفة، ومنتجات الخوص غيرها، وتحولها إلى مواد مهيئة للهجوم البيولوجي للكائنات الحية الدقيقة وتكاثرها وتغذيها عليها. وكذلك لها أضرارها المباشرة على المقتنيات غير العضوية، مثل: المعادن التي تشكل السبب المباشر في تعرضها للتلف والتآكل، وكذلك أنواع مختلفة من المقتنيات الحجرية، والفخارية، والجصية.
والأمطار الغزيرة والمتواصلة، التي لا يمكن التنبؤ بدقة بفترات حدوثها، ولا بكمياتها، ولا بمدى خطورتها، قد تتحول إلى سيول جارفة في بعض الأوقات، أو في بعض المناطق. وربما يتسبب سوء اختيار موقع المبنى المتحفي في وقوعة في طريق السيل فتكون الكارثة لا شك كبيرة وتصعب مجابهتها في كثير من الأحيان.
ولعل من الأخطار البيئية الأخرى إلى تواجهها المتاحف الخاصة، اختلاف معدلات درجات الحرارة بين الليل والنهار وخلال فصول السنة، وتأثيرها المتلف يكو كبيراً على المقتنيات ذات الطبيعة العضوية، مثل: المخطوطات، والمنسوجات، والجلود، والأخشاب، والرسومات، والألوان المائية، والمواد الملونة والمصبوغة، حيث تتسبب في جفاف هذه المقتنيات وتحولها إلى مواد هشة، فاقدة التماسك، فتؤدي إلى انفصال أغلفة المخطوطات وجفافها، وتحلل الأوراق والوثائق، وجفاف الجلود وتحللها الحمضي.كما تتعرض المقتنيات الخشبية لحالة من الجفاف، حيث تفقد ما بداخلها من محتوى مائي، وتتعرض للالتواء، والتشقق، وانفصال ما قد يكون عليها من طبقات ملونة. وفي حالة المنتجات المصنوعة من المنسوجات والأقمشة، فإنها تكون عرضة للتفتت، والهشاشة، والتغير اللوني. وفي اللوحات الزيتية والفنية تنشط تفاعلات الهدم الكيميائية، وما ينتج عنها من تأثيرات الجفاف ومظاهره المختلفة من هشاشة وبهتان لوني وغيرها.
وتظهر التأثيرات طويلة الأجل لدرجات الحرارة العالية بشكل ملحوظ على مواد مثل: الأصماغ، والمقويات، كما تظهر هذه التأثيرات على الشمع القديم، الذي يلين عند ارتفاع الحرارة، ويصبح مشوهاً لزجاً. كما تعجّل الحرارة العالية من التفاعلات المتلفة داخل المواد التراثية الأخرى.
والإضاءة، سواء أكانت صناعية من لمبات الإضاءة، أوطبيعية من ضوء الشمس المباشر، وما يحويه من أشعة مرئية، وغير مرئية، تشكل خطراً على المقتنيات المتحفية ما لم يتم التحكم فيها، وتصل هذه التأثيرات مداها المتلف مع المواد التراثية النباتية والحيوانية. وأكثر أنواع الأشعة خطورة: الأشعة فوق البنفسجية، الصادرة من الشمس، ولمبات التنجستن، والفلورسنت، وهي أشعة ذات تأثير كيميائي ضوئي هدّام. والموجات الطويلة والأشعة تحت الحمراء، ذات التأثير الحراري، الذي بدوره يولد آثاراً وتغيرات كيميائية متلفة. ويعتمد معدل التحلل الكيميائي الضوئي للمقتنيات على درجة حساسيتها للضوء، وشدته، ومدة التعرض له، والمسافة بين مصدر الضوء والمقتنيات الساقطة عليها الضوء. وأهم مظاهر التلف الناتج تتمثل في التغيرات اللونية، ومنها: بَهتان الأصباغ والأحبار، والنقوش الملونة، وتغير لون الخشب، والورنيشات، واللوحات الزيتية، واصفرار الأوراق، والمخطوطات نتيجة عمليات الأكسدة الضوئية. وكذلك تحلل، وتكسر التركيب الجزيئي للمواد العضوية، مثل: تقصف الورق، واهتراء النسيج، وضعف الجلود.
الأخطار البيولوجية
ومن الأخطار الأخرى التي تهدد المتاحف الخاصة ومقتنياتها، شيوع الفئران وانتشارها في البيئة المتحفية. والفئران من أخطر الحيوانات القارضة التي تلحق أضراراً كثيرة بالتراث الثقافي. فمن أضرارها المباشرة أنها تترك المكان ملوثاً بفضلاتها أو ما تخلفه من رائحة كريهة في أجواء المكان، وما يحفزه ذلك من تلف نتيجة تكاثر ونشاط الكائنات الحية الدقيقة، والحشرات. بالإضافة إلى الفئران هناك الخفافيش التي تشوّه المباني التراثية؛ فهي تتخذ من هذه المباني مهاجع لها، وعندما تحيض فإنها تشوه الجدران بمخلفاتها. وتعدّ الإصابات الحشرية من الأخطار المتلفة التي تعاني منها المقتنيات المتحفية. والواقع أن الحشرات لا تقوم بدورها المتلف للتراث الثقافي إلاّ إذا توفرت الظروف الملائمة لنموها وتكاثرها، ولمزاولة نشاطها، وتأثيراتها المتلفة.
وتتمثل هذه الظروف في توفر المادة الغذائية الكربوهيدراتية أو السيليلوزية، أو البروتينية، ودرجة حرارة ملائمة ومعدل رطوبة مناسبوكذلك توفر الأكسجين. ولكل نوع من أنواع الحشرات درجة حرارة ونسبة رطوبة مثالية، وبيئة من الأكسجين يعيش وينمو ويتكاثر خلالها. وهناك آفات حشرية عديدة تصيب القطع التراثية المتحفية، وخاصة ذات الأصل العضوي (النباتي أو الحيواني)، منها: الأرضة (النمل الأبيض)؛ وهي حشرة متخصصة في التغذية على المنتجات السليلوزية كالأوراق والوثائق والمخطوطات، غير أنها قد تفتك بأي شيء تقابله في طريقها، مثل: الجلود المدبوغة، والصوف، والأقمشة القطنية والكتانية، كما تهاجم اللوحات الزيتية والفنية، بل والمنازل الريفية المبنية من الطوب اللبن. وهناك النحل البري الذي يبنى أعشاشاً شديدة الصلابة، والتماسك على جدران المباني التراثية، من الطين وبعض الإفرازات العضوية، تتسبب في تشويه مظهرها. وهناك حشرة السمك الفضي التي تتلف الورق، والأغلفة والحبر الهندي في المخطوطات، والملابس الحريرية، وألوان الجواش في الصور، والمجموعات النباتية الحشرية المجففة في المتاحف والمكتبات. وكذلك خنفساء الأثاث وهي نوع من ناخرات الأخشاب، والدعامات الخشبية، والأثاث المصنوع من الخشب. وكذلك خنفساء السجاد وهي من الحشرات متعددة الغذاء؛ فهي تهاجم المواد العضوية العديدة مثل: المنسوجات، والسجاد، والملابس، والفراء، والجلود، والريش، والمجموعات الحشرية، والنباتية المجففة، وتتسبب أيضاً في تلف المخطوطات، والكتب. وحشرة عث الملابس وتهاجم الملابس في أي وقت من السنة لكنها تكثر في المناخ الدافئ في الصيف.كما تهاجم هذه الحشرة الجلود، وأغلفة المخطوطات، والكتب المصنوعة من الجلود؛ حيث تتغذى عليها اليرقات ذات الفم القارض. وتتغذى على الفرو، والسجاد، والأنسجة الصوفية وتُحدث بها ثقوباً، كما تتلف الريش، والحيوانات المحنطة، حيث تتسبب في إصابتها بتآكل سطحي على هيئة ثقوب دائرية غير منتظمة الشكل، بالإضافة إلى تراكمات من المواد العضوية التي تتغذى عليها، ويظهر ذلك على هيئة مسحوق. هذا بخلاف الصراصير التي تنتشر بكثرة في البلدان الحارة، وتوجد طوال السنة وخاصة في فصل الصيف، ولا يخلو منها مبنى. وبشكل عام تكثر الصراصير في الأماكن المهملة التي لا تمتد إليها أعمال النظافة. وتتغذى على مواد الطعام، وعلى الكتب، والجلود، والملابس. والواقع أن الضرر ليس في قمة ما تأكله فقط، ولكن أيضاً في الرائحة الكريهة، وما تخلّفة من قاذورات. والكائنات الدقيقة، من بكتيريا وفطريات وغيرها، عندما تتهيأ الظروف الملائمة لنموها، وعند تجمعها وتكاثرها، تقوم بمهاجمة المواد العضوية النباتية، أو الحيوانية الأصل، وتتلفها. هذا بخلاف الغبار والجزيئات العالقة في الهواء والتي تتراكم على المقتنيات المتحفية، المعروضة والمخزنة، فتشوهها وتغير مظهرها وألوانها،كما أنه مادة جاذبة للرطوبة والآفات البيولوجية مما يحفز الهجوم البيولوجي والكيميائي للمجموعات المتحفية في بيئتي العرض والتخزين.
التحديات
وإذا أضفنا إلى هذه الأخطار الطبيعية المختلفة، أساليب العرض غير المقبولة، وغير الآمنة، والتي تجعل منها مخازناً وليس متاحف، وتنتقص من القيمة المميزة للمقتنيات، وقد تؤدي إلى تعرضها للتلف. وكذلك ظروف ومواد وطرق التخزين غير السليمة، وأهم عيوبها التكدس والاحتكاك، التي تزيد من تعرض القطع المخزنة للتلف والتدهور. هذا إلى جانب إمكانية تعرض المتحف للحرائق، وما قد ينتج عنه من ضياع العددي من المقتنيات القابلة للاحتراق، وافتقاد وسائل الأمان والسلامة، وإمكانية السرقة، والافتقار لأعمال الصيانة والترميم المستمرة، ناهيك عن صعوبة الوصول إلى المتحف. وكذلك الافتقار إلى كيفية الاستثمار السياحي والثقافي لهذه المتاحف، أو المشاركة الفاعلة في المجتمع الثقافي داخل الوطن. وقيامها بدورها المنوط بها تجاه مرتاديها.
كما أن أصحاب هذه المتاحف في حاجة إلى دورات تدريبية في مجال الصيانة والترميم، وإدارة الزوار، والعروض المتحفية تؤهلهم لإدارة متاحفهم على الوجة الأمثل. ولعل أكبر التحديات التي تواجه هذه النوعية من المتاحف يتمثل في أن معظمها، إن لم يكن كلها، في حاجة إلى مصادر تمويل لمزاولة نشاطها، وأداء دورها. فهذه المتاحف في حاجة إلى دخل لتطويرها والإنفاق على صيانة مقتنياتها، وتقديم خدماتها بشكل أفضل لزوارها. فمن المعروف، وكما علمت من بعض أصحاب هذه المتاحف، أن الزيارة لها مجانية أو بسعر مخفض. وهي في حاجة إلى أن تخرج من إطارها الارتجالي القائم على الهواية وحب الاقتناء والجمع، إلى الإطار الاحترافي التسويقي العلمي القائم على الاستثمار السياحي، وكيفية إيجاد مصادر تمويل تنفق عليها وتحافظ على مقتنياتها وعلى استمرارية وجودها ودورها.
- د. محمد أبو الفتوح محمود غنيم