علي صالح الفهيد ">
ليست اللغة كلمات، أو جمُلاً تقال للتعبير عن أحاسيسنا، أو مشاعرنا، أو رغباتنا، أو أداة للتواصل مع الآخرين، بل هي هوية يُعرف بها المتكلم، وهي ولاء وانتماء مجموعة من الناس إلى مكان محدد، أو إلى أمة من الأمم. بل هي أعظم من ذلك كله كما عبر عنها الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر ( ت 1976) بقوله: « إن لغتي هي مسكني، وهي موطني ومستقري، وهي حدود عالمي الحميم ومعالمه وتضاريسه، ومن نوافذها ومن خلال عيونها أنظر إلى بقية أرجاء الكون الواسع «.
الدول القوية تحترم لغاتها القومية، وتحرص عليها أشد الحرص، فأحد الرؤساء الفرنسيين أيَّام الاستعمار الفرنسي على العالم العربي يقول: « علموهم الفرنسية حتى يشتروا بضائع فرنسية «. فالفرنسي والألماني يرفضان التحدث بغير لغتيهما في بلادهما، وتوجد غرامة مالية على من يستخدم غير الفرنسية في المكاتبات الرسمية. ومن نافلة القول إن سياسيي بعض الدول، مثل: إيران، والكيان الصهيوني، وتركيا، واليابان يرفضون التحدث في المؤتمرات والمحافل الدولية بغير لغات بلادهم مع إجادتهم اللغة الإنجليزية!
وحين توسعت الخلافة الإسلامية في نهاية القرن الهجري الأول اكتسحت اللغة العربية اللغات الأخرى، فأصبحت لغة العلم والحضارة، واللغة الرسمية للعالم حتى غيرت بعض الشعوب التي أسلمت أبجديتها إلى الأبجدية العربية، مثل: اللغات الفارسية والأوردو والتركية - التي استبدلتها بالحروف اللاتينية في القرن العشرين _ وحين حكم المسلمون الأندلس حرص الأندلسيون والأوروبيون على تعلم لغتنا، وهذه سنة الحياة إِذْ الشعوب الضعيفة تتعلم لغة المستعمر أو المسيطر القوي عليها.
ولقد حاول الأتراك العثمانيون تتريك العرب، وكذلك فرنسا التي احتلت الجزائر 132 عاما حاولت تفريسها، وحاولت إيطاليا في ليبيا فرض الإيطالية، وبريطانيا فرض الإنجليزية، وجميعهم باؤوا بالفشل؛ لاعتزاز العرب بلغتهم، وأنها لغة الإسلام والقرآن تحمل القداسة، ولا تتم الصلاة بغيرها.
كذلك حاربها بعض المستشرقين بأنها لغة صعبة، ودعوا إلى كتابتها بالحروف اللاتينية. ويا ليت الحرب على لغتنا توقفت على المستعمرين والمستشرقين حتى حوربت من بعض أبنائها، خاصة الذين درسوا في أوروبا، فقد ادعى بعضهم أنها لغة غير مفهومة للعامة، وجامدة لا تقبل المصطلحات الأجنبية الجديدة، ولا يوجد بديل لها في العربية، ودعوا إلى استبدال الفصحى بالعامية قراءة وكتابة، ومنهم الشاعر اللبناني سعيد عقل، فانبرى لهم شاعر النيل حافظ إبراهيم بقصيدته العصماء: « اللغة العربية تنعى حظها بين أهلها « قائلا:
رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي
وناديت قومي فاحتسبت حياتي
و في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات الميلادية من القرن المنصرم شهدت العربية صعودا قويا بنبوغ ثلة من علمائها وأدبائها، أمثال مصطفي صادق الرافعي وطه حسين، وبزوغ فجر القومية العربية، وأنها الكيان الجديد الذي سيوحد العرب بعد أن تفرقوا شذر مذر.
إن واقع لغتنا اليوم مزرٍ حيث طغت العامية على حياتنا العامة باستخدام الكلمات الأجنبية كدليل على الحداثة، والتطور، وكذلك على وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، وحتى على البرامج الحوارية العلمية والأدبية، والاهتمام المبالغ فيه بالشعر الشعبي على الفصيح. وليت شعري أن مد العامية توقف عند هذا الحد بل تعداه إلى التعليم مع وجود بند في وزارات التربية والتعليم، ووزارات التعليم العالي يفرض استخدام الفصحى في التعليم. وهناك تخصصات في جامعاتنا العربية: مثل الطب والهندسة تُدرس بالإنجليزية والفرنسية، وكذلك بعض المؤتمرات التي تعقد في بلادنا لغتها الأساسية الإنجليزية، مثل: المؤتمر الاقتصادي الدولي الذي يعقد سنوياً في الرياض!
إن لغتنا لغة حية متطورة تواكب المتغيرات، وتستوعب الكلمات الأجنبية بعد تعريبها، فنحن نفهم الشعر الجاهلي الآن بعكس بعض اللغات التي لا يفهم المعاصرون ما كتبه أسلافهم قبل عدة قرون. فالإنجليز الآن لا يفهمون ما كتبه شكسبير إلا بشق الأنفس!
إن من أهمية لغتنا أن جعلتها الأمم المتحدة لغة رسمية ضمن لغاتها الست، وذلك في 18 ديسمبر 1973. ولقد قادت المملكة العربية السعودية بمشاركة المملكة المغربية جهودا دبلوماسية حثيثة في الأمم لجعل اليوم الثامن عشر من ديسمبر يوما عالميا، وتم ذلك في عام 2010.
إن علينا أن نعتز بلغتنا، ونهتم بها، ونعيدها إلى منزلتها اللائقة باستخدامها فصيحة مبسطة في حياتنا العامة، وفي وسائل الإعلام والتعليم، وتبسيطها للعامة، وسن قوانين لحمايتها، وأن تكون هما شعبيا لكل عربي، وجعلها من العوامل التي توحد العرب، ومن العوامل التي تقربنا بإخواننا المسلمين. ومسك الختام مقولة خادم الحرمين الشريفين عن اللغة العربية: « إن لغتنا العربية لغة حضارة وثقافة، وقبل ذلك لغة الدين القويم، ومن هنا فإنها لغة عالمية كبرى شملت المعتقدات والثقافات والحضارات، ودخلت في مختلف المجتمعات العالمية، وهي مثال اللغة الحية التي تؤثر وتتأثر بغيرها من اللغات».