وكل مصيبات الزمان وجدتها
سوى فرقة الأحباب هينة الخطب
مامن شك أن فراق الأحبة وأصحاب دروب الحياة الدنيا مؤلم وموجع للنفوس تبقى آثاره بين الجوانح خالدةً أزماناً طوالاً، ولاسيما رفاق الصغر والصِبا، مع تذكر أيامهم المشرقة ولياليهم المقمرة.. التي قضوها في مرح وفرح بعيدين عن منغصات الحياة وأحزانها:
أيام كنت أناغي الطير في جذل
لا أعرف الدنيا وبلواها
وهكذا يعيش الإنسان في مقتبل عمره، ولقد كان لوفاة الصديق الحبيب عبدالعزيز بن محمد الناصر بالغ الأسى والحزن في نفسي الذي انتقل إلى الدار الباقية ليلة الجمعة 22-2-1437هـ وقد أديت صلاة الميت عليه بجامع الملك خالد بعد صلاة الجمعة، ووري جثمانه الطاهر بثرى مقبرة أم الحمام بالرياض -رحمه الله رحمة واسعة-، ولقد حزن الكثير على رحيله وغيابه لما يتمتع به من حميد السجايا وسماحة الخلق وطيب المعشر ولقد ولد (أبو محمد) في حريملاء حوالي عام 1357هـ، وهو باكورة والديه من الأبناء، فاهتم به والده -رحمهم الله-، وعندما بلغ السابعة من عمره ألحقه بأحد الكتاب لتعلم الخط وحفظ القرآن الكريم لدى شيخنا المقرئ «المطوع» الشيخ محمد بن فهد المقرن، وعندما ختم القرآن الكريم أخذ يعمل مع والده في حقله الزراعي ونخله... لأجل سقايته ونزح الماء من البئر بواسطة بعض الحيوانات في ذلك الزمان، كما كان يقوم بحصد البرسيم والأعلاف لتغذية المواشي من أبقار وأغنام..، وعندما شعر بحاجة والديه إلى المادة لندرتها بأيدي الناس في ذاك الزمن البعيد، فكر في السفر إلى الرياض لطلب المعيشة لمساعدة والديه مما يحصل عليه من أجور مقابل أتعابه هناك، رغم حداثة سنه، فهو ابن بار بوالديه وعندما استقرت (السحارة على راسة) أي الصندوق الخشبي الذي يضم ملابسه وعباءته... ليتجه إلى سيارة نقل الركاب إلى الرياض مد يده مودعاً والديه، فشدت والدته على يده قائلة: صن غربتك تحسن سمعتك، واحفظ ريالك ينفعك، فهي -رحمها الله- امرأة ذات صلاح وتربية، ولقد أجاد شاعر النيل حافظ إبراهيم حيث يقول:
الأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعباً طيب الأعراق
وهي مهيبة وعطوفة على المساكين والأيتام، ومما يؤثر عنها حينما زارت إحدى صديقاتها فقدمت لها القهوة بدون قدوع من التمر، فبدأ الخجل عليها لعدم وجود تمر في بيتها، فما كان من الضيفة الكريمة -أم عبدالعزيز- عندما عادت إلى نخلها وبيتها أن عمدت إلى ملء زنبيل كبير من التمر، فبعثت به على عجل إلى صديقتها، فهي ندية الكف -تغمدها المولى بواسع رحمته-
وعندما وصل الرياض «لأول مرة» ذكر له أن الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله بن عبدالرحمن آل الشيخ يرغب في أحد الشباب أن يعمل عند أهل بيته وفي مزرعته الواقعة في حي لبن غرب مدينة الرياض على مقربة من وادي حنيفة المشهور.. وقد أحبته الأسرة لصلاحه وأمانته فهو على جانب من الخلق الكريم والأدب الحسن، ثم أعطته الفرصة لقيادة السيارة لأجل أن يحضر للعائلة لوازمها من داخل البلد..، وكان محل الثقة لديهم وقد اعتبروه كأحد أبنائهم للطفه وخفة روحه، فأخذوا يحسنون في مرتبه شيئا فشيئا تشجيعاً وترغيباً لإبقائه لديهم، وهو بدوره يبعث كل ما يحصل عليه لوالديه براً بهما وطلباً للمثوبة من ربّ العباد، كما عمل في مؤسسة العم الحبيب عبدالله بن إبراهيم الخريف مدة طويلة، وكان محل احترامه وثقته به، وظل قائداً لسيارته في حله وأسفاره الداخلية، ومن المصادفات السعيدة بعد انقضاء أعمال حج 1382هـ أن صحبتُ العم -أبا إبراهيم- عندما همّ بالاتجاه لزيارة المسجد النبوي للصلاة به، والسلام على سيد البشر محمد بن عبدالله -صلى الله عليه وسلم-، والسلام على صاحبيه أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما-، وهو في طريقه إلى جهة تيماء عبر مدينة خيبر لأجل اطمئنانه على حسن سير عمل حفاراته الارتوازية لإخراج الماء من باطن الأرض لصالح وزارة الزراعة والمياه أو لأحد المزارعين هناك..، فمؤسسة العم عبدالله الخريف -رحمه الله- تعد من الأوائل في هذا المجال، وفي توريد المضخات العادية والعملاقة معاً على مستوى المملكة العربية السعودية، وكان قائد السيارة في تلك الرحلة الميمونة الأخ الحبيب عبدالعزيز بن محمد الناصر -رحمه الله-، فهي سيارة كبيرة ضمت العائلة وعدداً من أقارب العم، وكنت أنا وإياه والصديق الوفي عبدالله بن حسن الجريبة ابن عمة الشيخ العم عبدالله أثناء المرور بالمدينة المنورة نبيت خارج المباني في أطرافها بعد الإذن من العم عبدالله لطيب الأجواء والابتعاد عن ضجيج حركة السيارات، فنقضي في تلك الأمسيات أمتع الساعات وأحلاها وما يتخللها من قصص طريفة وشيقة معهما، ولكن سرور الدنيا لا يدوم يمر سريعاً ثم تفرق إلى الأبد:
فما أحسن الأيام إلا أنها
يا صاحبي إذا مضت لا تعود!
وهذه من بعض الذكريات الجميلة التي لا تنسى أبد العمر مع أبي محمد -تغمده المولى بواسع رحمته-، وألهم ذويه وإخوته وشقيقته أم محمد السالم وأبناءه وبناته وعقيلته أم محمد ومحبيه الصبر والسلوان. {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف - حريملاء