م. عبد العزيز محمد السحيباني ">
تعثر المشروعات مشكلة تنموية تبدو في كثير من البلدان النامية التي تعتمد على دول أخرى في تنفيذ مشروعاتها نظرا لعدم امتلاكها الإمكانات الفنية والتنفيذية، بينما تمتلك القدرة المالية كدول الخليج التي تزداد طفراتها التنموية بازدياد أسعار النفط وتنخفض بانخفاضها، وقد مرّت بلادنا خلال السنوات السابقة بطفرة كبيرة ناتجة عن زيادة أسعار النفط وبدأت تنخفض هذا العام، ولكن ربّ ضارة نافعة فقد يكون ذلك سببا لتفرغ الأدوات الفنية والتنفيذية لهذه المشروعات.
ولا بد لمعرفة المشكلة من تشخيصها، معرفة المشكلة نصف الحل, فالمشكلة ليست فقط في المقاول، فهو أداة تنفيذ فقط، ولكن المشكلة تدخل فيها الكثير من العوامل المكونة للمقاول نفسه، فليس هناك مقاول يصنع المعدات بنفسه فلا بد من استيرادها, وليس هناك مقاول ينفذ طريقا داخل المدينة متجاهلا حركة المرور وخطوط المياه والكهرباء والهاتف.
ومن الملاحظ أن كثيرا من المشروعات تتعثر دون سبب واضح، ويرجع غالبا إلى اتخاذ أسلوب روتيني بيروقراطي في التعامل مع المشروعات، وهذا يتطلب تعاملا لا يخضع لمثل هذه الإجراءات، ويجب أن تتجاوز مثل هذا الروتين الذي يعطِّل كثيراً من هذه المشروعات.. لأن الهياكل التنظيمية لكثير من الأجهزة الحكومية لم تكن مهيأة لاستقبال مثل هذا السيل الكبير من المشروعات التي تتجاوز إمكاناتها التنظيمية وبيروقراطيتها.. كما أن بنية القطاع الخاص كذلك (قطاع المقاولات) لم يستوعب هذا السيل الهادر من المشروعات، فتعامل معها بشكل يماثل سني الركود، إضافة إلى عدم وجود خطة تكاملية لتنفيذ هذه المشروعات تشترك فيها جميع الجهات المسؤولة فتنفيذ مشروع طريق (مثلا) يحتاج إلى مواد إسفلتية (شركة أرامكو) حيث تتعثر كثير من المشروعات بسبب زيادة الطلب على البيتومين وكذلك الأسمنت ويتطلب عمالة ماهرة (وزارة العمل)، حيث تعوَّدت القطاعات الحكومية والخاصة على الركود في سنوات قلت فيها اعتمادات المشروعات.. وكما نعلم بأن خطة الدولة تتضمن إنفاق ما يزيد على (300 مليار) ريال على المشروعات كل سنة (في المتوسط)، وحيث بدأت تظهر في هذه الفترة مشكلات تعثر كثير من المشروعات نتيجة لهذا الكم الكبير من الاعتمادات المالية التي لم تكن في تصوُّر المخططين، ويجب استغلالها وتعظيم الفائدة منها، ومنها..
أولاً: من الناحية الفنية:
كثير من الأجهزة الحكومية التي تطرح لها مشروعات لها اهتمامات في مجال عملها فمثلاً وزارة التعليم اهتمامها الأكبر في التعليم وليس إنشاء المدارس أو الإشراف الفني عليها، ووزارة الصحة اهتمامها هو في الصحة العامة وليس في الإشراف على المستشفيات.. وهذا التنافر بين الاهتمام العام ومشروعات البنية التحتية ربما أوجد حالة من الارتباك في بعض الوزارات.. وهناك بعض الوزارات التي كانت مهيأة من الأساس لمثل هذا الكم من المشروعات.. مثل وزارة النقل التي لا تزال تدور عجلتها في إنشاء الطرق والكباري وتملك من الخبرة الفنية والمالية والإدارية ما يمكنها من استيعاب هذه المشروعات، وعلى هذا فإنه يجب لمواجهة هذه الحالة ما يلي:
أ- إيجاد وظائف مؤقتة لخبراء كبار في مجالات دراسات المشروعات وتنفيذها في كل وزارة حكومية تعاني نقصاً في الكادر الفني لها، وتكون هذه الوظائف ذات خبرات كبيرة في مجال المشروعات ومهارات فنية عالية برواتب مقطوعة ومؤقتة ولتكن سنوية مثلاً... أو بعدد سنوات المشروعات الكبيرة (3 سنوات مثلاً)..
ب- إيجاد حوافز تشجيعية للمهندسين والفنيين المشرفين على المشروعات.. فليس من المعقول أن نساوي بين مهندس يشرف على مشروع بقيمة 100 مليون ريال ويحتاج إلى جهد كبير في المتابعة.. مع مهندس لا يشرف على أي مشروع - وليكن الحافز بحجم الإنجاز.. فإذا تم إنجاز المشروع بجودة عالية وبوقته المحدد يحصل هذا المهندس والفني على راتب 3 أشهر (على سبيل المثال) وذلك لخلق حوافز تشجيعية للمهندسين والفنيين للإبداع والابتكار.. لا نقلل من ذلك ونقول إن العوائق أكبر من هذا.. ففكرة بسيطة من فني أو مهندس يمكن أن تدفع مشروعاً بمليارات الريالات إلى الأمام بدلاً من السير في دهاليز البيروقراطية..
ثانياً: من الناحية المالية:
أ- كثير من المشروعات تواجه تعثراً بسبب عدم وجود تمويل كاف لها، حيث إن السيولة المالية السنوية المعتمدة ضمن الميزانية لا تفي باحتياجات البدء في المشروع من تجهيز وتنفيذ سريع مما يجعل المقاول بين نارين، إما اللجوء للإقراض وبالتالي استهلاك ربحية المشروع، أو التعاقد مع مقاول من الباطن لتنفيذه بأسعار أقل وجودة أقل، فمثلاً يلجأ المقاول للتحايل بالمواد ويستخدم مواد رخيصة الثمن وأقل جودة حتى يحافظ على ربحيته من المشروع مع اللجوء للاقتراض، أو أن يتعثر المشروع ويخضع المقاول أخيراً لغرامة لا تتجاوز (10 في المائة) من الأعمال المتأخرة. ويمكن أن يكون ذلك بإعطاء المقاول دفعة لشراء المعدات وتجهيزات المشروع ودفع نسبة لا تقل عن 50 في المائة من تكاليف المشروع بشرط الحصول على برنامج واضح للتنفيذ بحيث إذا تأخر عنه بدون سبب يتم سحب المشروع فورا ومصادرة جميع ما تم صرفه للمقاول؛ أي أن ذلك يتطلب نظاما واضحا ضمن العقد، حيث إن المقاولين غالبا لديهم عقود في وزارات مختلفة فكل وزارة يجب أن تتعاون مع الأخرى في حالة تلكؤ المقاول أو عدم وفائه بالتزاماته مع أي من الوزارات فنحن في دولة واحدة وبالتالي لا بد من إيجاد مرجع للمقاولات يكون رابطا وضابطا لكل المقولين في الوزارات.
وبالتالي فإن الحل لمشكلة التمويل لا يأتي بالدفعة المقدمة التي يجب على المقاول أن يقدم ضماناً مساوياً لها، بل لا بد من إيجاد دعم حكومي لقطاع المقاولات كما هو حاصل في دعم قطاع الزراعة، فالمقاولات هي الذراع التنفيذية للبنية التحتية للدولة ولا بد من استحداث دعم لها، ولهذا أرى أن يتم إنشاء بنك بمسمى (بنك الإنشاء والتعمير) تماماً كما هو (صندوق التنمية الزراعية) أو البنك الزراعي سابقاً حيث يعطي قروضاً لشركات المقاولات لاستيراد المعدات وغيرها.
ب- عدم مواكبة الاعتمادات المالية لعقود الإشراف الهندسي مع اعتمادات المشروعات. مما يلاحظ أنه إذا ازدادت الاعتمادات المالية لمشروعات البنية التحتية الكبرى فليس هناك ربط بين اعتماداتها واعتمادات الإشراف عليها بل هي ثابتة لا تتغير مع تغير حجم المشروعات، وعندما أذكر الإشراف فإنني أعني الإشراف المعتمد على تصاميم دقيقة وصحيحة، والملاحظ أن اعتمادات قطاع التصميم مهملة في العقود والمشروعات، فالمشروع يعتمد بمسمى (تنفيذ المشروع والإشراف عليه) فقط ولا بد من طرح مشروعات للتصميم والدراسة قبل تنفيذ المشروع، خاصة في الفترات التي ينخفض فيها الإنفاق على المشروعات، وإذا تم إنفاق 3 في المائة فقط على التصاميم الدقيقة من حصة المشروعات السنوية في الميزانية فسيكون لدينا 9 مليارات سنويا للتصاميم وهذه ستضمن -بإذن الله- عدم تعثر كثير من المشروعات التي ما إن تبدأ حتى تتعثر بسبب عدم دقة التصاميم بسبب إعدادها من مكاتب لا تملك الخبرة!!
ثالثاً: من الناحية القانونية والتنظيمية:
ويمكن أن يتم إجمال الملاحظات (الجوهرية) بما يلي:
أ- زيادة مدة الضمان النهائي إلى 10 سنوات على الأقل.
ب- زيادة الضمان النهائي نفسه إلى (10 في المائة) على الأقل.
ج- أن يقوم المقاول المنفذ بصيانة المشروع لمدة 10 سنوات من تنفيذه.
ومن الغريب أن النظام نفسه فيه فقرتان متناقضتان حول ماهية الضمان النهائي وهو (5 في المائة) وهو ضمان حسن التنفيذ ولم ينص النظام نفسه على مصادرة هذا الضمان للتنفيذ على حساب المقاول في حالة إخلاله بإصلاح الملاحظات في سنة الضمان، ففي المادة (الثالثة والثلاثين) الفقرة ج (يجب الاحتفاظ بالضمان النهائي حتى ينهي المتعاقد التزاماته وفي عقود الأشغال العامة حتى انتهاء فترة الصيانة وتسلم الأعمال التسليم النهائي).
ومن المعروف أن سنة الضمان أو الصيانة هي سنة واحدة تبدأ من تاريخ الاستلام الابتدائي وقد تظهر كثير من العيوب بعد سنة، فسنة واحدة غير كافية لإظهار عيوب كثير من المشروعات مثل تطاير الإسفلت وتصدع الخرسانة، وهذه الفقرة تتناقض مع المادة (السادسة والسبعين) التي تنص على: (يضمن المقاول ما يحدث من تهدم كلي أو جزئي لما أنشأه خلال عشر سنوات من تاريخ تسليمه إياه للجهة الحكومية تسليماً نهائياً متى كان ذلك ناشئاً عن عيب في التنفيذ). فما دام أن العيب سيظهر خلال السنة الأولى أو خلال 10 سنوات فما هو الفارق بين سنة الضمان وهذه العشر سنوات. ولحل هذا التناقض فإنه لا بد من تحميل المقاول المنفذ نفسه أعمال الصيانة لمدة (10 سنوات) بدءاً من تنفيذ المشروع أي (دورة المشروع) وذلك لضمان فرض رقابة ذاتية من المقاول المنفذ حتى ولو تم زيادة تكاليف المشروع نفسه فإن ذلك سيحقق هدفين أو أكثر:
(1) تنفيذ مشروعات على مستوى عالٍ من الجودة.
(2) توفير كثير من الأموال التي تذهب هدراً بسبب تنفيذ مشروعات على مستوى متدن من الجودة.. فما دام أن الأمر كذلك فلماذا لا يتم زيادة تكاليف المشروع نفسه وتوفير هدر الأموال في الصيانة.
(3) توفير كثير من الأموال والجهد في الاختبارات والتعاقد مع مكاتب استشارية وتعطيل كثير من المشروعات لفحص جودة الأعمال وضمان إنجازها بسرعة من قبل مقاول مؤهل ولن يتقدم لمثل هذه المشروعات حتماً إلا المقاول المؤهل فنياً.
رابعاً: العمل على دمج المؤسسات الصغيرة في كل منطقة في شركة كبيرة واحدة لتصبح مؤهلة مالياً وفنياً لتنفيذ المشروعات في هذه المناطق، فكثير من المناطق، خاصة النائية تعاني من عدم توافر مقاول تنفيذ مؤهل، مما يجعل المجال خصباً لنشوء مؤسسات صغيرة بإمكانات ضعيفة ودمجها سيوفر لنا شركة كبيرة وقادرة على تنفيذ مشروعات كبيرة. كما يجب أن تسعى كل وزارة إلى تأسيس (ذراع تنفيذية) لمشروعاتها بتأسيس شركة مقاولات تساهم برأس مال كبير فيها ويكون لديها القدرة المالية والفنية لتنفيذ مشروعاتها، وأذكر مثالا على ذلك مشروعات السكك الحديدية التي كان من المستحيل تنفيذها بدون تأسيس (شركة سار) المملوكة لوزارة المالية (صندوق الاستثمارات العامة) ومشروعات البنية التحتية لا شك أنها استثمار وطني هائل من المؤسف أن يترك سوقا لمقاولات رديئة ومجالا للكسب المادي فقط, فنحن بلد يملك الإمكانات المادية الهائلة التي تمكنه من استثمارها لتنفيذ مشروعاته بسرعة هائلة.
خامسا- من العوائق الكبرى لتنفيذ كثير من المشروعات وجود شبكات الخدمات التي يتم تمديدها في مواقع المشروعات، خاصة الطرق والكباري وهذه لاشك خدمات تهدف لخدمة المواطن ولكن عدم التعامل معها بجدية تعثر المشروعات تعثرا كبيرا، فلو فرضنا أن نفقا تنفذه وزارة النقل يعترضه كيبل هاتف صغير سيتطلب جيشا من المنسقين بين وزارة النقل والشركة المسؤولة عن الكيبل التي ستفرض شروطا تعجيزية وتكاليف باهظة لترحيل الكيبل والسبب في ذلك ببساطة أن الخدمة التي تعني هذه الشركة هي الاتصالات الهاتفية، والخدمة التي تعني وزارة النقل هي تنفيذ النفق، وكل جهة تهتم بخدمتها هي فقط وعدم توحيد المسؤولية أوجد هذا التنافر واللامبالاة وأخّر كثيرا من المشروعات، وبالتالي لا بد من اتخاذ قرار حاسم لمثل هذه الحالات بتوحيد المرجعية الإدارية، وأرى أن يكون الحاكم الإداري هو المسؤول المباشر في هذه الحالة وهو (أمير المنطقة) الذي يجب أن يكون قراره حاسما في حل مثل هذا (التضاد الإداري) في الأهداف والمرجعيات في تنفيذ المشروعات المهمة التي نخسرها سنويا وتتعثر لعدم وجود مرجعيات موحدة وقرارات حاسمة لها.
هذه بعض الرؤى حول حلول مقترحة لتعثر المشروعات التي يدفع الوطن فاتورتها، وأجزم بإعطائها الاهتمام من الجهات المسؤولة، خاصة مجلس الشؤون الاقتصادية والتنموية الذي يوحد الجهات المسؤولة عن التنمية وينسق بينها ويهتم بهذا الجانب التنموي لبلادنا العزيزة.