نشأت في كنف رجلٍ محبٍّ لتاريخ بلاده.. شغوفٍ بالبحث عن المكان وعمن سكنه ">
أكد صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز، رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، مؤسس ورئيس مؤسسة التراث الخيرية، أنه تأثر كثيراً باهتمام خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- بالتراث وحبه له، فنشأ عاشقاً للتراث، شغوفاً بخدمته، متحمساً لإعادة اهتمام الناس به.
وأشار في مقدمة كتابه الذي صدرت نسخته الثانية حديثا بعنوان: (وثائق مبكِّرة في مسيرة التراث العمراني) إلى أن رؤية الملك سلمان تتمثل في اكتشاف إمكانات المستقبل من خلال الارتكاز على تراثنا الوطني. وقال سموه في مقدمة الكتاب التي عنونها (ثلاثون عاماً في خدمة التراث الوطني.. وثائق مبكرة للحفاظ على الذاكرة الوطنية): «إنني ومنذ فترة مبكرة من عمري وجدت نفسي مواطناً سعودياً مشغوفاً بالتعرُّف على وطني من خلال مكوِّناته الثقافيَّة الممتدَّة جغرافيّاً من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، شغوفاً بمعرفة الأماكن التي ترك إنسان الجزيرة العربية عليها بصمته الباقية، وعلى المباني التُّراثيَّة التي تُعدُّ من أبرز الشواهد على التحوُّلات الحضاريَّة والتاريخيَّة التي مرَّت بها بلادنا، وعلى مجتماته المحليَّة التي كوَّنت إرثها الثقافي من خلال ارتباطها الوثيق بالأرض والبيئة المحيط».
وأضاف الأمير سلطان: إنني نشأت في كنف رجل محب لتاريخ بلاده، مشغوف بالبحث والتقصّي عن المكان وعمن سكنه، وقد كان وما يزال، سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، -حفظه الله-، المعلم الأول والمحفز لي لكي أنظر إلى تراثنا نظرة مختلفة في وقت مبكر جداً، في ذلك الوقت كان التراث يشكل عبئاً على البعض، وجزءاً من إرث الماضي الذي يجب أن يندثر.»
مضيفاً: أن رؤية الملك سلمان كانت على عكس ذلك تماماً؛ إذ كان يقول دائماً: «من ليس له ماض فلن يكون له مستقبل».. وقال الأمير سلطان: «يجب أن أقر أنني لم أكن أنظر إلى التراث كماضٍ فقط، فمن رؤية والدي كنت أحاول أن أكتشف إمكانات المستقبل من خلال الارتكاز على تراثنا الوطني، وهو ما حاولت أن أعمل من أجله خلال العقود الثلاثة الأخيرة التي يوثق هذا الكتاب محاولات متفرقة منها.. مضيفاً: وأعود بذاكرتي إلى بداية اهتمامي بالتُّراث الذي يعبِّر بصورة بالغة الدّلالة عن ارتباط الإنسان بالمكان، ويعكس بقدرٍ كبيرٍ ثقافته في تطويع ظروف المكان الجغرافيَّة والبيئية لخدمة فنون العمارة وضرورات إعمار الأرض والحياة. ولفت إلى أن اهتمام سموه بالتُّراث بدأ في التسعينات الهجرية من القرن الماضي (السبعينات الميلادية) عندما كانت صورة مدينة الرياض في صورتها العصريَّة الحديثة قد بدأت في التشكُّل.. مشيراً سموه إلى أنه عاش تفاصيل تلك المرحلة والتي تعلق بها وما زالت تفاصيلها راسخةً في ذاكرة سموه، وهي تشكل صميم اهتمامته اليوم؛ لاستعادة ما بقي منها للأجيال القادمة.
واستطرد قائلاً: أتيحت لي بعد ذلك فرصة مهمة للاطلاع على خُطط تطوير الرياض، فلفتت تلك الفرصة انتباهي إلى كثيرٍ من القضايا العمرانيَّة المتشابكة المعقَّدة، ما دفعني أكثر إلى الاهتمام بالعلاقة الجوهريَّة بين العمارة والتنمية والقضايا الإنسانيَّة بشكلٍ عام، فبدأ تفكيري في الطابع العمراني المحلي.
وأكد الأمير سلطان أن هذا التفكير قد تعمَّق، واتضَّح الكثير من تفاصيل هذه الرؤية في المحاضرة التي شارك بها سمو في مؤتمر البلديات في أبها عام 1408هـ - 1988م، بطلب من زير الشئون البلدية والقروية آنذاك الشيخ إبراهيم العنقري -رحمه الله-، مبيناً أن مفهوم التراث اتَّخذ عنده بُعداً آخراً، ارتبط وقتها بأبعاد تعليميَّة ومهنيَّة، خصوصاً بعد رئاسة سموه الفخريَّة للجمعيَّة السعوديَّة لعلوم العمران في النصف الأول من عقد التسعينات، وتأسيسه لمؤسسة التُّراث الخيريَّة عام 1417هـ - 1996م، وعلاقتة سموه التي أصبحت وثيقةً بجماليَّات البيوت الطينيَّة التي تمثلت بوضوح في منزله الطيني بنخيل، العذيبات، والعمارة المتنوعة في بلادنا بكل أشكالها وتميزها، وقال: «أتذكر بوضوح الورقة التي قدمتها عام 1419هـ (لأمير منطقة الرياض آنذاك الملك سلمان -حفظه الله-) عن مدينة الرياض وهي تخاطب مستقبل المدينة وتتحدث عن أهمية «أنسنة المدينة»، حيث طرحت مسألة المدينة الإنسانية كونها خاصية أساسية تتميز بها مدننا التاريخية التي كانت تقوم على مبدأ الاستدامة والتكامل بين الإنسان والمكان».
وأضاف الأمير سلطان بن سلمان: كنت أحلم بتلك البساطة التي كانت تصنعها مدننا التاريخية، وما زلت على قناعة بأن تلك المدن قابلة للحياة وقابلة أن تكون نموذجاً يحتذى في تخطيط مدننا المعاصرة، متمنياً أن تحذو رياض المستقبل حذو تاريخها المفعم بالإنسانية؟.
ومضى سموه في سرد قصته مع التراث قائلاً: «كان تفكيري في تلك التجربتين قد سبق ذلك التاريخ بسنوات، لأنَّه من المؤكَّد أنَّ لكلِّ تجربةٍ منهما مقدِّماتٍ ومؤشِّراتٍ سبقت التوقيت الذي يؤرِّخ لكلٍّ منهما، ويمهِّد للتجربة، فيتحوَّل فيما بعد إلى علامةٍ في سيرتي مواطناً سعوديَّاً يؤمن بأنَّ بلاده ليست طارئة على التاريخ، بل هي جزءٌ أصيلٌ من الحضارة الإنسانيَّة، وأنَّها بما تملك من موروثٍ حضاريٍّ، وبما تعاقَب على أرضها من حضاراتٍ كان لها إسهامٌ كبير في التطُّور البشري».
ولفت سمو رئيس الهيئة إلى أن المملكة العربية السعودية كونها دولة حديثةٍ تمثل امتداداً طبيعياً لتراكم تلك الحضارات التي تركت أثرها وآثارها على كلِّ جزءٍ منها، وقال إن إنسان هذه البلاد المعاصر هو امتداد لإنسانها الذي عاش في السَّابق وساهم في صنع التاريخ.
ومضى قائلاً: «أيقنت أن النظرة النمطيَّة إلى مخزون بلادنا النفطي ودورها الاقتصادي دون النظر إلى مخزونها الثَّقافي وبُعدِها الحضاري، هي نظرةٌ قاصرةٌ تتطَّلب منَّا جميعاً العمل بإصرار على تغييرها حتى تكتمل تفاصيل الصورة التي تليق ببلادنا ودورها المؤثِّر في التاريخ الإنساني».
وذكر أن التُّراث هو نتاج الفكر الإنساني الذي يبدأ من الأرض (المكان والإنسان) ثم ينمو أفقياً أو رأسياً إلى اتِّجاهاتٍ مختلفة، وأضاف» وعلى الرغم من انشغالي بمهامِّ عملي في مجال الطيران في مرحلة سابقة، إلا أنني أعتبر أن الفترة من 1405هـ - 1985م، حتى عام 1412هـ -1992م، هي المرحلة الأهم لاكتشافي لعلوم العمران ولتراثه وتشعُّباتها الفكريَّة، وقال أدركت أنَّ موضوع التُّراث العمراني شائكٌ، وأنَّ تفعيله على أرض الواقع يحتاج إلى عزيمةٍ، وإصرارٍ.. مضيفاً: أن دافعه للاهتمام بالتراث أكثر من مجرَّد شغَف؛ وأشبه بتحدِّي الذَّات أوَّلاً، ثم تحدِّي الظروف المحيطة التي كانت تُشجِّع على الابتعاد عن التراث وإهماله، وليس على العناية به واستعادته.
ولفت سموه إلى المصادفات التي تجعل الإنسان يتمسَّك بالحلم، مشيراً إلى بيته الطيني بالعذيبات، وهي النخيل الذي كان يملكها الملك فيصل رحمه الله، وتقع في الدرعيَّة على وادي حنيفة، وقال إن العذيبات تمثل الحدث الذي جعلني أتشبَّثُّ بحلم المحافظة على التراث العمراني لبلادي؛ إذ ظلَّ هذا المكان المرجع بالنسبة لي.. مستدركاً: أن ذلك لا يعني أن العذيبات أصبحت قيداً يُجمِّد أفكار سموه الجديدة ورؤتيته للتراث العمراني، وقال: أنا مؤمن بأنَّ التُّراث يتطوَّر ويتجدَّد، ويتجاوب مع ظروف الزمان والمكان، ولكنَّ هذه التجربة وحدها جعلتني أؤمن أكثر أنَّ جمال العمارة لا يتحقَّق في الافتعال وتعقيد الصُّور البصريَّة، بل في البساطة التي تقوم على «التأثُّر بالتقنية» المحليَّة والبيئة الطبيعيَّة.
وأشار سمو الأمير سلطان إلى أهمية العودة بالذاكرة إلى الورراء، وقال: بحثت في أرشيفي الخاص، ووجدت مجموعات مهمة من الأوراق التي أصبحت بفعل الزَّمن وثائق تتجاوز الحدود الشخصيَّة، وقد رأيت توثيقها في هذا الكتاب؛ لأنَّها تُعبِّر بصورةٍ واضحةٍ عن الاهتمام المبكِّر بالتُّراث، وتؤكِّد أنَّ شغفي بتراثنا الوطني لم يكن مهمَّة عملٍ بدأت مع عملي بالهيئة العامَّة للسياحة والتراث الوطني، بل كان وما زال تعبيراً عن يقيني بأهميَّة التُّراث للوطن والمواطن، وأنَّ هذا الارتباط الذي يتعمَّق باستمرار قد سبق إنشاء الهيئة بسنواتٍ طويلة، ومن هنا فإنَّ رصد هذه الوثائق في هذا الكتاب يُعدُّ مدخلاً مهمّاً للتجربة الأهمِّ التي وثَّقتها في كتابي «سيرة في التراث العمراني»، مبيناً أن هذه التجربة قد تبلورت التجربة، وأحدثت النَّقلة التي نعيشها اليوم على مستوى التُّراث العمراني، وعلى مستوى التحوُّل الثقافي الذي يعيشه المجتمع السعودي من حيث الوعيِّ بالتُّراث.
وأضاف: التُّراث العمراني أصبح مشروعاً وطنيَّاً تقوده الدولة، وتسهم فيه مؤسَّسات المجتمع وجامعاته وهيئاته التعليميَّة ومجتمعاته المحليَّة، لافتاً إلى أن الجامعات السعوديَّة التي لم تكن تتقبَّل برامج التراث العمراني في التعليم الجامعي الذي قدمته مؤسسة التراث الخيرية قبل عشرين عاماً، تجدها اليوم تتسابق لتدريسه وتطويره وتنظيم أنشطته إيماناً منها بأهميَّته الوطنيَّة والاقتصاديَّة، ودوره في ربط الأجيال بتاريخ بلادهم، وترسيخ وحدتهم الوطنيَّة.
وأوضح أن ذلك لم يكن ليحدث لولا توفيق الله، ثم إصرار المهتمين والشركاء المخلصين المحبين لتاريخ بلادهم وحضارتها.. وقال سموه: لولا إيماننا بأنَّنا مجتمعٌ قادرٌ بالإرادة على التغيير، لما تضامنّا وعملنا معاً لتحقيق هدف نبيل.
وقال الأمير سلطان: إن كثيراً من المسائل التي كنت أعدها «أحلاماً» قد تحققت اليوم ولله الحمد، فالوثائق التي يضمها هذا الكتاب بين دفتيه، تبين الجهد والمثابرة والإصرار لكثير من المؤمنين بقضية التراث وتأثيره الثقافي والاقتصادي، مبيناً أن هذه الجهود ترصد محاولات صنعت الواقع المعاصر الذي يعيشه التراث الوطني، والتحولات الكبرى بشأنه.. ومن هذه التحولات تغيير اسم الهيئة من هيئة السياحة والآثار إلى السياحة والتراث الوطني بقرار حكيم من الدولة؛ وصدور نظام الآثار والمتاحف والتراث العمراني، كأول نظام ربما على مستوى المنطقة العربية الذي يدرج للتراث العمراني نظاماً خاصاً به، وتأسيس شركة الضيافة التراثية التي ستعمل على إعادة الحياة الاقتصادية للمواقع التراثية.
وأطلق سمو الأمير سلطان بن سلمان على الفترة الحالية فترة»التحول» بعد أن كانت الفترة السابقة هي «البناء»؛ وقال: نحن نعيش فعلاً فترة تحول كبيرة على مستوى التراث الوطني واستثماره بعد أن تشكلت المنظومة المؤسسية التي تعيد التراث للحياة من جديد بواقع جديد يصنع المستقبل.
واختتم سموه مقدمة الكتاب قائلاً: إنَّ رصد مزيد من هذه الوثائق في هذه الطبعة الجديدة من الكتاب بما يحمل من مخاطباتٍ ومكاتباتٍ وأفكار يُعدّ -كما أشرتُ- مَدخلاً مهمّاً للتجربة الأهم، وهو يوضِّح أنَّ كلَّ ما حاولتُ أن أقوم به على مدى أكثر من ثلاثين عاماً يتمثل في تهيئة هذه الفرصة للتغيير والتطوير والاعتزاز بما نملك من مخزونٍ تراثيٍّ يستحق منَّا الاهتمام.. مضيفاً: لا أقول إنَّنا نجحنا تماماً، فما زال الطريق طويلاً، ولكنَّي على يقينٍ بأنَّ ما تحقَّق يمثِّل بداية التحوُّل الحقيقي على مستوى ثقافة التُّراث بشكلٍ عام، وأنَّ هذا التحوُّل هو حجر الزَّاوية في بناءٍ معرفيٍّ قوي يستلهم من الماضي ليبني الحاضر، ويسهم في بناء مستقبل يوازن بين التاريخ العريق لبلادنا، والاتجاه المتسارع نحو المستقبل الذي نطمح إليه جميعاً.
يشار إلى أن كتاب «وثائق مبكرة في مسيرة التراث العمراني» الطبعة الثانية يرصد عدداً من الوثائق والمكاتبات بين سموه وعدد من المسؤولين في المؤسسات المختلفة بالدولة، وإلى جانب مبادرات ومشروعات عدة، وأوراق عمل وكلمات شارك بها سموه في عدد من المناسبات المهمة، كما يحوي الكتاب جانباً من الملفات الإعلامية والمواد الصحفية المختلفة التي تناولتها الصحف من أخبار، وتقارير، وتصريحات لسموه في إطار سعيه لتعزيز الوعي المجمتعي بالتراث العمراني وقيمته الثقافية والاقتصادية والاجتماعية.