أكثر من عشرة أيام قضيتها برفقة الأديبين الكبيرين عباس العقاد وأنيس منصور، جذبني في البدء صالونهما الأدبي، فظللت أتردد عدة أيام على هذا المنتدى البديع، واقرأ كتبهما وتجلياتهما الثمينة، وأناقش أفكارهما في الحياة والفكر والأدب. وجدت إجابات مختصرة منهما، وظلت أسئلة كثيرة معلقة في الهواء تحوم بلا إجابة، تضافرت معها رغبة دفينة منهما في الصمت، الصمت فقط وترْك الإجابة للأيام والحدس ولعبة التأويل.
ظللت أحضر هذا الصالون مشرفًا من فوقهم برفقة الفيلسوف الذي أضاع فلسفته خلف الكتابة الصحفية والرحلات والوجودية، أنيس الذي لا يقول كلمتين حتى يذكر أمه أو يتذكرها، ولا يكتب حرفين حتى يذكر الأمكنة العجيبة التي زارها حول العالم بأسلوبه الرشيق، أمشي بجواره كصديق قديم، فأشعر أن طيبته ولطفه تضوع على كل من يعرفه أو يقابله في الشارع، لقد كان يترفق بي كثيرًا ونحن نخوض غمار قراءاته الموسوعية، وحواراته الأدبية، ثم لا يمتعني شيء قدر اصطحابي إلى صالون العقاد، ولا ينتشي بي شيء مثلما يلتفت إلى (الأستاذ) متسائلاً ومحاولاً استدراجي في الحديث: وألا أيه يا مولانا؟، وأنا صامت لا أحر جوابًا، ولا أريد أن أتحدث. لا أعرف إن كان ذلك انبهارًا بتمرده، أو خوفًا من قسوته في الحوار.
أنيس الذي انخرط في الصحافة، وصداقة عبدالناصر والسفر إلى أصقاع العالم، ظلّ مشغولاً بالكتابة حول السياسة، وافتراءات الناس على أصحابها، ومتجهًا أحيانًا إلى الكتابات الاجتماعية، وقليل من الخواطر الأدبية، كان يقرأ كثيرًا وكثيرًا، ويكتب قليلاً، ويحاور ويناقش بين ذلك سبيلاً، اختار القراءة في كل شيء، لأنه أراد أن يكون مثقفًا يحيط بكل ما حول العالم، وهذه كانت غلطته، لأنه كان من الممكن أن يتخصص فيصبح فيلسوف مصر أكثر من عبدالرحمن بدوي، ولأنه كان من الممكن أن ينشغل بالرواية فيكون روائيًا عالميًا، وبينما كنت أجد أن أنيس يلم من كل فن بطرف يريد أن يجمع أطراف المجد الواسعة إلا أن ذلك كان دونه حياض الموت أو الجنون، ولأنه كان يؤمن بالتحرر في الفكر والفهم فقد جاءت كتاباته خفيفة عابرة، بينما كان العقاد أكثر عمقًا، وأغزر معنى، وقرأ هذا الأخير أربعين ألف كتاب معظمها في الفلسفة والفكر، وبدا لي أن معظم قراءاته وانبهاراته أيضًا في الفكر الغربي. ويختصر أنيس الفرق بينه وبين العقاد (أنا صاحب قلب، وهو صاحب عقل. أنا اتنقل وهو يتقدم. أنا أنبهر وهو يضيء. أنا أتغنى وهو يخطب. كنتُ أمسكُ في يدي شمعة، أما هو فيمسك النجوم والشموس في يديه).
كشف أنيس عن أنانيتنا في تعلقنا بالشعراء والمبدعين.. الشعراء المغمورون الذين نقرأ عنهم ثم نخبئهم ونخفي قصائدهم عن الناس، والمفكرون العظماء الذين وجدنا ضالتنا الفكرية في كلماتهم فاحتفظنا بها في دفاترنا، كنا نظن أن الفلاسفة والحكماء منزهون عن هذه العلة، فإذا بهم يتصدرونها، وضبطنا أنيس متيمًا بحب الشاعر محمود إسماعيل يحفظ قصائده، ويتمثل بها، لا يريد لأحد أن يشترك معه، ويغتاظ حين يأتي ذكره بين الشعراء أو يتمثل أحدهم بقصائده، وقرأنا لإسماعيل ووجدنا شاعرية مبهرة فذة، وسألت عن سر هذه الانانية الإنسانية ومغزاها، لكن كان أنيس كعادته يرى أن مشاعر الإنسان أحيانًا تستعصي على الفهم.
لقد تفكرت كثيرًا في مقولة العقاد في صالونه (أنه أمر شاق تمامًا أن يكون الإنسان حرًا وزوجًا في وقت واحد) ولأنني متزوج فضلاً على أبوتي لعدد من الأطفال، فقد حاولت أن أقنع نفسي بأن الحرية أحيانًا تكون عبئًا على الإِنسان، فلا هو بالذي بقي حرًا منتجًا دون امرأة، ولا هو الذي أضاف شيئًا إلى الحياة بعيدًا عنها، فرضيت بنصيبي بل اطمأننت إليه، ورأيت أن أي فشل أصاب به وأنا متزوج وأعيل أولادًا هو منجز يكفيني مؤونة البحث عن المجد والشهرة والخلود، وهو مع كل آرائه في الصالون ومجالسه عن أن (المرأة ديكتاتورية) وأن (الزواج غلطة) إلا أنني وجدته منصفًا لمشاعرها، حين قرأت له عنها أن المرأة قد تحب الرجل بالفعل لكن الرجل لا يحب سوى نفسه فقط. فضلاً عن رسائله العديدة إلى سيدته الفضلى مي زيادة، وحكاية الفتاة سارة. أما صديقنا أنيس منصور فإنه كاد أن يفعلها كما فعلها أستاذه ويعيش عازبًا، لولا ثورة الضباط الأحرار التي أنقذته وزوجته من شقيقة ضابط منهم، لكنه استمر على الوحدة والكتابة وعدم الإنجاب!
ظل العقاد يعاني ردحًا من الزمن من المصران الغليظ، وظل يذكي هذا الألم من غير أن يعلم بأقداح القهوة وعصائر الليمون التي لا تغيب عن مجلسه، وتبعه بسنوات منصور بنفس العلة وجئت آخرهم وليس أخيرًا مشتركًا معهم في القولون، والقهوة والليمون وبعضًا من الآراء حول المرأة، فرقنا الزمان، وجمعنا الداء الوبيل، والسهر الطويل. وربما الكلام الجميل ربما.
- حامد الإقبالي