أثناء تجوالي بالحي الذي أسكن فيه حيث كان الهدف البحث عن عامل لمعالجة مشكلة فنية في أعمال السباكة.. توقفت عند أحد المحلات وأنا في سيارتي ناديت أحد الفنيين التابعين للمحل فجاء مسرعاً وبيده كأس ورق من الشاي.. وحينما توقف عند باب السيارة رمى الكأس بما فيه من سوائل بالشارع وهو قريب مني.. كان المشهد مزعجاً جداً أن رمى الكأس بالشارع بما فيه وأمامي دون مبالاة وخجل.. عاتبته على فعلته وأشعرته بأن ذلك ملوث للبيئة ومشوه للمنظر العام ويتبعه غرامة رمي النفايات بغير محله.. سألته لماذا رميت النفايات بالشارع؟ قال بثقة (كل نفر سوي كذا).. يعني لست الوحيد الذي يرمي النفايات بالشارع وكل الناس تعمل مثلما عملت..!! لم أستطع أن أعمل أكثر من التنبيه عليه بأنه مخالف والمخالفة هذه يتبعها عقوبة غرامتها تصل (150 ريالاً).. وأفضل ما قام به أنه حمل الكأس المرمي ونقله إلى موقع آخر تجمع فيه النفايات.. هنا انتهى مشهد العامل ومخالفته.
والحقيقة أن العامل أثار شيئا نحاول أن نتجاهله ولكن ذلك المشهد مع العامل فتح الباب على مصراعيه لإثارة جوانب المخالفات من قبل أناس هم قياديون وهم بسلوكهم الخاطئ سرّعوا في اتساع دائرة التشويه والانحراف عن جادة الصواب، وليست القضية العظمى هي رمي قطعة ورق بالطريق أو علبة مشروب غازي في مكان عام أو ترك مخلفات غذائية في المنتزه أو رمي أنقاض المباني في الأراضي المخصصة للخدمات والمرافق أو ترك أحد الأطفال ينزع الشجيرات الصغيرة من الحدائق العامة أو رمي ما تبقى من أطعمة في حاوية النفايات الصلبة، أو رمي ما تبقى من النفايات الورقية قرب الأشجار اليابسة وإحراقها.. ورغم فداحة تلك التصرفات ومدى انعكاسها على انحراف السلوك البشري اللامبالي وعدم الإحساس بجرم المخالفة فإن ذلك أهون بكثير مما يمرسه بعض المسؤولين في تصرفاتهم خلال أداء أعمالهم اليومية على كرسي المسؤولية أو خارج العمل.
ومما شاهدت من تصرفات لبعض المسؤولين والقياديين وأصحاب المقاعد الوثيرة لهو شيء يحزن القلب.. فقد شاهدت رئيس بلدية يمزق الأوراق ويرمي بها من نافذة السيارة وهو بالطريق.. وأستاذ جامعي يعتلي الرصيف بسيارته ليتجاوز نقطة الدخول الأمنية دون مراعاة لرجل الأمن الواقف أمام البوابة.. وإمام مسجد يرمي بالنفايات عند إشارة المرور..!
وهذا غيض من فيض حول السلوكيات التي تهدد الثقافة المثالية للمجتمع.. وامتداد لتلك الثقافات المتردية انتقلت العدوى للمنتزهات السياحية حيث أصبحت نشازا بفعل الزوار الذين لا يبالون بترك مخلفاتهم الورقية والغذائية في مكان تواجدهم في تلك المتنزهات ودون أن تتحرك غيرتهم على جمال تلك المنتزهات التي حباهم الله بها في بلادهم.
قبل أربعة عقود زرت أبها مع بعض الزملاء في زيارة سياحية خاصة شبابية حيث أقمنا في منتزه السودة حينما كان مسموحا بذلك، وكان منتزه السودة جنة الله في أرضه بجمال طبيعتها ونقاوة جوها وغزارة أمطارها الجذابة، ولم تكن السودة محط أنظار أبناء المملكة فقط بل كانت جاذبة لأبناء دول الخليج، وكذلك الحال بالنسبة لمنتزهات (الحبله ومنتزه الحساب ودلغان والقرعاء) كان ذلك في وقت مضى أما الآن فقد تحولت المنتزهات إلى مجمع مخلفات زائري تلك المواقع الجمالية والأغلبية من الزوار يغادرون المكان وتبقى نفاياتهم في أماكن تواجدهم حيث تتكدس تلك النفايات بالأطنان، حتى أصبحت العدوى السلبية هي السائدة عند مغادرة المكان، بل إن الوعي المتدني صعب الأمر على فرق النظافة في عسير حينما يبادرون في أعمال نظافة الموقع لكون النفايات مبعثرة في كل مكان مثل (العلب الفارغة- وأكياس النفايات الورقية- ومخلفات الطعام) ومن أجل نظافة المكان فإن العامل يمشي على قدميه مسافات طويلة من أجل لملمة النفايات المبعثرة.ارتفعت تكلفة عقود النظافة والمبرر سلوك البشر الخاطئ.
في ولاية أريزونا الأمريكية يوجد هناك منتزه يسمى (منتزه قراند كانيون) وهذا المنتزه نسخة من منتزه الحبله في أبها في الشكل والتضاريس ولطافة الجو.. ولكن ليس نسخة في ترك النفايات، حيث يزور المنتزه سنوياً ملايين السواح للاستمتاع بالأجواء المناخية والمناظر الطبيعية والبرامج الترويجية والترفيهية المقامة في ذلك المنتزه.. أما منتزه الحبله في عسير وما هو على شاكلته من يزوره مرة لا يرغب في تكرار الزيارة لما فيه من المنغصات التي لا تشجع على تكرار الزيارة، والأسباب منها تدني مستوى النظافة وخاصة في دورات المياه.. ضعف الخدمات، غلاء الأسعار الترفيهية، وعدم توفر مواقف كافية وتوزيع المحلات الغذائية بشكل عشوائي وما شابهه ذلك من الأنشطة التي تخدم الزائر.. وما يعكر متعة الاستمتاع في الأجواء السياحية أن تلك المواقع تنزحم بأكشاك المبيعات المتنوعة من ملبوسات ومأكولات وألعاب أطفال بشكل غير منظم أو موحد، حيث يكون لكل نشاط مساحة وشكل ولون وهذه المظاهر تتكرر في الكثير من مناطق المملكة وكل ما زاد عدد الزوار تدنت معها مستوى النظافة..!! حتى الشواطئ طالها ما طال تلك المواقع من بعثرة النفايات وتردٍّ في الخدمات.
وعوداً على ما قاله العامل حينما عاتبته على رمي النفايات بالشارع وقال حينها (كل نفر سوي كذا) فهو يتكلم عن حقيقة ظاهرة دفعته لأن يرمي الكأس دون خوف أو خجل أو ترقب ملامة.. فذاك العامل جاء من بلاده وهو ملتزم في رمي النفايات في مواقعها خوفا من العقوبة والتزاما بالتعليمات التي تفرضها الجهة المختصة للحفاظ على البيئة، ولكنه حينما شاهد ما شاهد تطبع بطبع أهل المدن التي يغيب عنها الحس الوطني.. والأقسى من ذلك أن المواطن إذا سافر إلى أي دولة غير عربية فإنه يلتزم بكل التعليمات الهادفة إلى ترك المواقع نظيفة، ويتشدد في الحرص على عدم ترك أي نفاية في الموقع تمشياً مع النظام وخوفاً من العقوبة.. وفي وطنه يراكم النفايات ويتركها في مكانها دون إحساس بالمسؤولية والغيرة الوطنية أو أن يتحرك الضمير في الحفاظ على المكتسبات التي دفع فيها مئات الملايين في تجهيز تلك المواقع لتنشيط السياحة ولأجل أن تبقى دائماً نظيفة لامتاع قلوب الزوار والمواطنين عند زيارتهم لتلك المواقع.
وكم هو قاس ومؤلم أن يكون الغريب ملتزماً في وطنه وعابثاً في وطننا.. والأقسى والأكثر ألماً أن يكون ابن الوطن ملتزماً خارجياً وعابثاً في وطنه.
م/ عبدالعزيز علي الزنيدي - مدير الإدارة الهندسية - بلدية عنيزة - منسق مدينة عنيزة الصحية