محمد بن عبدالله الفيصل ">
حين ينهي الطالب السعودي تعليمه العام تكون الدراسة الجامعية نصب عينيه. وحال ما يحصل على شهادته الثانوية يبدأ في التوجُّه إلى الجامعات الكبرى آملاً بالحصول على قبول في إحدى الكليات التي يعتقد أنه عند التخرج منها سيتسنى له الحصول على وظيفة مرموقة، تمنحه دخلاً جيداً؛ يمكِّنه من بدء الحياة بسهولة ويُسر، وأن يحقق طموحاته التي لم تتشكل بعد.
من كانت شهادته الثانوية من المسار العلمي فسيتقدم إلى كلية الطب أو الهندسة أو الحاسب الآلي دون تفكير أو تخطيط.. ومن كانت من المسار الأدبي فسيتوجه إلى كلية القانون أو إدارة الأعمال بالقدر نفسه من التفكير والتخطيط الذي وضعه خريج المسار الآخر.
حين يصل إلى شباك التسجيل تكون أمامه مجموعة من النتائج التي يمكن أن يؤول إليها: قد يُقفل الطريق أمامه حال رؤية مسؤول القبول درجاته، ويوجهه لطريق الخروج. قد يُبلَّغ بأن طلبه يفوق قدراته، وأن عليه القبول بكليات العلوم أو التربية أو حتى الزراعة. قد يوضع في قائمة الانتظار للكلية التي طلبها على أمل توافر مقعد له بعد الانتهاء من فرز الطلبات التي تسبقه. والقليل القليل قد يُقبل طلبه مباشرة، ويقيَّد للدراسة في الفصل القادم.
من رُفض طلبه أو وُجِّه إلى تخصص غير الذي يرغب فيه سيعمل على تفعيل ما عوَّده عليه مجتمعه.. سيُجري اتصالاته، وسيزور من يعتقد أنه عليه مساعدته، وتجب عليه خدمته. البعض سيصل إلى مبتغاه، والأكثر سيبدأ في استيعاب الواقع. من فشل سيتوجه إلى الجامعات والكليات الأهلية، ثم معهد الإدارة، ثم الكليات التقنية مروراً بكل ما بينها. وفي كل محطة تصغر أحلامه، ويزيد أسفه على ما مضى، وحنقه على المجتمع لما يدين به له.
بعد بضع سنوات من ذلك يتخرج من أتم دراسته، سواء من التخصص والمكان الذي بدأ به، أو من آخر آل إليه، ويتوقف من لم يستطع. وجميعاً يتوجهون للبحث عن عمل. الغالب سيسعى جاهداً لوظيفة في القطاع العام، لا تحتاج منه سوى للقليل من الساعات في اليوم، وتُمكِّنه من السعي خلف مصدر دخل آخر. والبقية سيتوجهون للقطاع الخاص بشقَّيْه الضخم والصغير. الصفة المشتركة بين الغالبية العظمى منهم أنهم سيؤولون إلى العمل الإداري.
حسب إحصائية وزارتَيْ الخدمة المدنية والعمل فإن عدد العاملين السعوديين في الدولة خلال العام المالي 1432/ 1433هـ هو 919085 عاملاً. أما القطاع الخاص فقد «نما» حجم العمالة الوطنية فيه من 681481 عام 2009م إلى «ما يقارب مليوناً ونصف المليون عامل سعودي» عام 2013م بفضل «توطين» الوظائف، أي بزيادة أكثر من 100 % خلال أربع سنوات. ورغم «مجهودات» وزارة العمل يوجد 651305 سعوديين عاطلين عن العمل عام 1435هـ. وحسب مصلحة الإحصاءات العامة والمعلومات عام 1434هـ فإن عدد المشتغلين السعوديين هو 4717127 (لم يتضح للكاتب سبب تضاعف الرقم عن رقمي وزارة الخدمة المدنية والعمل). يعمل أكثر من 62 % منهم في قطاعات التعليم و»الإدارة العامة والدفاع والضمان الاجتماعي الإجباري»، و»أنشطة الخدمات الإدارية وخدمات الدعم». ويعمل نحو 60 % في مهن كتابية والبيع والخدمات ومهن المديرين ومديري الأعمال.
يتضح من الإحصاءات السابقة صحة الافتراض بأن الغالبية من العاملين السعوديين يتجهون أو يؤولون للعمل الإداري المكتبي. وقد نجزم أننا لو تفحصنا الأعمال الأخرى لوجدنا غالبيتها ذات طابع قريب من العمل المكتبي.
حين تخرجتُ من الثانوية قبل سنوات عدة كان هذا هو الحال، وعندما ينتهي العام الدراسي الحالي سيتكرر المنوال. فما هو السبب؟ لماذا يصل الشخص منا إلى ما بعد سن الرشد دون تصوُّر واقعي لمستقبله؟ ما أراه هو غياب الهدف والتوجُّه على جميع المستويات، سواء كان الفرد أو المجتمع.
لنملأ الفراغ الآتي: المملكة العربية السعودية بلد ........ هل نكمل بـ»صناعي أم معرفي أم زراعي»؟ هل هي المركز المالي والتجاري للمنطقة؟ أم تعتمد على السياحة الدينية والعائلية؟ ما لم يُملأ ذلك الفراغ، وتُوجَّه كل الإمكانات إلى الوصول إليه، فلن تُكسَر تلك الدائرة السنوية، ولن يتوقف الهدر.
قبل بضعة أعوام فُتحت الأبواب من جديد أمام من يرغب في التوجُّه إلى بلدان العالم من أجل التعلُّم وجلب المعرفة دون تكلفة مالية عليه؛ وتزاحم الناس في مبنى وزارة التعليم العالي ومكاتب خدمات الابتعاث، ثم صالات المطارات، وحالهم كحال من سبق وصفهم في بداية المقالة.. منهم من ذهب باحثاً عن الدراسات الجامعية، وآخرون للدراسات العليا، وامتلأت جامعات ومعاهد أمريكا الشمالية وأوروبا وآسيا وأستراليا بالطلاب السعوديين الذين تنوعوا في دراساتهم من الطب والهندسة إلى الأدب الإنجليزي، وكل ما بينها من تخصصات.
ماذا كانت الخطة لمن سيعودون من تلك البعثات؟ هل الوظائف المكتبية التي يتجه غالبية السعوديين إليها بحاجة لتلك الشهادات؟ هل للمهارات والمعارف التي اكتسبوها تطبيق حين عودتهم؟ هل القطاع الخاص المكبل قادر على الاستفادة منهم؟ هل بإمكانهم الانطلاق في تأسيس كيانات خاصة، يستخدمون فيها ما اكتسبوه؟ أجزم أن التساؤلات السابقة لم تُعامَل واقعياً من المبتعَث أو المبتعِث.
بلادنا تعتمد على النفط مصدراً أساسياً للدخل القومي، وتحتوي على قِبلة الأمة الإسلامية ومسجد نبينا اللذين يسافر إليهما ملايين المسلمين كل عام.. أرض حضارات عديدة، لا تزال معالمها موجودة، ويحمل أهلها إرثاً ثقافياً عظيماً، وتتنوع مناخاتها وتضاريسها.. جغرافياً نقطة تقاطع لمسارات النقل الجوي والبحري، شُيِّدت فيها صروح علمية ضخمة، جُهِّزت بكل ما يمكن أن تحتاج إليه، وحباها الله الأمن والاستقرار بغض النظر عما يدور حولها من صراعات وكوارث.
علينا نحن المجتمع أن نضع هدفاً رئيسياً واقعياً لما نريد أن يكون بلدنا، وأن نوجِّه برامجنا التعليمية والتدريبية وأنظمتنا الإدارية والتطبيقية إليه. يجب أن لا نشتت جهودنا ومقدراتنا وتركيزنا في الاتجاه في طرق مختلفة، لن نتمكن من إكمالها. علينا أن نسخر إمكاناتنا البشرية والمعرفية لذلك الهدف، ونعمل على إتقانه والريادة فيه. على الجهات التشريعية والرقابية أن تكون أكثر مرونة، وأن تعمل جنباً إلى جنب مع القطاعات الخاصة؛ لتنطلق وتكبر، وأن تنظر إليها كشريك، وتتخلى عن التسلط والتخوين ونظرية اللص والشرطي. علينا نحن الأفراد أن نعي المسؤولية التي نحملها تجاه المجتمع، وأنه لا يدين لنا بشيء، وأننا نحن من يكوِّنه؛ إن فسدنا فسد، وإن صلحنا صلح. يجب أن ننظر بواقعية إلى مستقبلنا، وكيف يمكن أن نتطور بوصفنا أفراداً؛ لنسهم في الوصول إلى ذلك الهدف ونحافظ عليه. يلزم أن نثقف أطفالنا وصغارنا، ونعرِّفهم بما ينتظرهم وما يمكنهم الوصول إليه، وبمسؤوليتهم تجاه مجتمعهم.
لعلي أختتم هذه المقالة بما يدل على عدم وضوح الهدف عند أكثرنا: حين كانت المنح الداخلية سارية، والدراسة مجانية، حضر إلى مكتبي في كلية الدراسات العليا التي أعمل فيها رجلٌ في نهاية الثلاثينيات، وسألني «وش الزين عندكم؟»!!