محمد بن غازي العنزي ">
برزت إلى السطح التعليمي في الآونة الأخيرة والتي جاءت بعد حقبة الطفرة الأولى للمملكة العربية السعودية مصطلحات في عالم وزارة التعليم لم تكن موجودة في الماضي وهي (تعليق الدراسة سبب الأحوال الجوية المتغيرة)، (تقديم وتأخير الدراسة لبرودة الجو العام)، هذه المفردات التي أصبحت شغل الطلاب الشاغل في تعكر الأجواء وتقلبها هي الشماعة التي يعلق عليها الآخرين تهربهم من الواجب التعليمي كمعلمين وموظفين والتحصيل العلمي كطلاب وتلاميذ.
من وجهة نظري هذا التعليق أو التوقف تعطيل لمسيرة خطة العلم والتعليم المرسومة، بل يمكن أن تصل إلى مرحلة الفوضى التنظيمية في عملية الضبط النظامي للعمل التعليمي من خلال وقفات قد لا تكون ضرورية بالدرجة الأولي في بعض الأحيان والأزمان، تعلمنا في الصغر من معلمين أفذاذ لهم بصمة في التوجيه والإرشاد أن العلم لا يأتي بالسهولة، وتعلمنا من الشعراء مقولة (ومن يتهيب صعود الجبال يعش أبدا بين الحفر).
لا شكَّ أنني بهذه المقالة المتواضعة البسيطة التي استند فيها إلى تجربتي التعليمية القديمة التي عشتها كـ (طالب) في منطقة تشهد أعلى معدل انخفاض حراري في المملكة العربية السعودية وهي (منطقة الحدود الشمالية)، ومن حسن الصدف أنه عاشها أيضاً كطالب في تلك الحقبة من الزمن سمو أمير المنطقة الأمير الدكتور مشعل بن عبد الله بن مساعد آل سعود، وفي منطقة يُعدُّ الكثير الكثير من منازلها مبنية من (الطين واللبن ) ماعدا مساكن (عمال أرامكو) وبعض الإدارات الحكومية والمساكن التي بنتها الشركة حسب الاتفاقية معها، هذه المنازل لا تعرف معنى العزل الحراري أو ملابس لا ترتقي إلى تقنية اليوم في التصميم واختيار أجود أنواع الفراء (الأجنبي والعربي والصناعي والطبيعي)، وغذاء لا يصل إلى جودة اليوم وتنوعه، مدارس تفتقر إلى تدفئة مناسبة ومبان مدرسية مهيأة بمواصفات قياسية تدفع فيها الملايين من الريالات (ما عدا مدرسة واحدة مبنية من قبل شركة أرامكو) في تلك الحقبة، فخرجنا من التعليم بقامة وهامة عالية وعود مشدود والصبر والتحمل للمسؤولية منذ التخرج من المرحلة الثانوية، وتكيف مع الأجواء المختلفة والمتقلبة بين البرودة والثلوج والصقيع شتاء وبين الأجواء المغبرة أحيانا صيفا، ولم تكن تعلق الدراسة رغم سقوط بعض من المباني الطينية نتيجة كثرة هطول الأمطار أو تتكسر مواسير المياه نتيجة التجمد لدرجة تحت الصفر بعدة درجات إلا في حالة قصوى وبطريقة إلزامية لعدم القدرة على الوصول إلى المدرسة نتيجة عوائق قاهرة، رغم أننا كنا نسير على الأقدام مسافات طويلة وبذلك كنا مجتمعا يتحمل المسؤولية بخشونة الرجال رغم صغر السن وهذا مصدره وإلهامه، وقدوتنا تلك الفئة من الآباء وشد الأزر من الأمهات للتحصيل العلمي وشق طريق الحياة بثبات وصبر وتحفيز لمقومات الرجولة في هذا المجتمع الشمالي، هذا ما يجعلني أشيد وبكل احترام وتقدير بما تناقلته بعض وسائل التواصل الاجتماعي لتصريحات قيمة وثمينة من معالي الدكتور/ إسماعيل بن محمد البشري مدير جامعة الجوف الذي قال فيه بصريح العبارة خلال كلمته التوعوية لتعليم الإلكتروني التي نظمتها الجامعة (المطالبات المتكررة بتعليق الدراسة في المدارس والجامعات هي سبب تخلفنا)، واستند معاليه في هذا الأمر إلى تصرف أهالي محافظة بالمنطقة بالخروج للتنزه واصطحاب العائلات إلى الشعاب مستمتعين، بينما الدراسة فقط هي التي يطالبون بتعليقها.. لاشك أن هذا انطلق من خبرة يشاركه فيها الكثير ممن عاصر تلك الحقب التي سردتها في مختلف مناطق المملكة أو قريب منها.. لذلك نحن - من وجهة نظري - نعيش في فقر في التفكير والتأمل للمصلحة العامة من أجل أن نحقق وقفة يومية أو تعطلا جزئيا ليوم من الدراسة نفرح بها، بينما الآخرون حتى من أقرب الدول العربية الشقيقة المجاورة لنا وتعيش نفس الظروف من حيث حالات خطرة في مجال الأحوال الجوية فلا تتوقف طائرات ولا تقف مسيرة العربات السائرة على الطرق، ولا تعلق دراسة من هبوب كتلة ثلجية أو أمطار رعدية لأنّها تعمل على التكييف الواقعي للبيئة التي تعيش فيها.
دعوة من القلب لكل مسؤول في موقعه ومهمته التي تحملها أمام ولي الأمر أن تراجع آليات توقف الدراسة والعمل على وضع الآلية المناسبة التي تكفل سلامة الجميع، مع الحفاظ على أهمية التعليم ومكانته التي نرجو ألا نفقد هيبتها وقوتها ومكانتها كما فقدنا قيمتها بسبب بعض التعاميم التنظيمية التي جعلت الطالب يفسرها على أنها سوط على ظهر المعلم والمدرسة، والحرص على أن تكون الآلية متوازنة بقدر حرصنا على صحتنا وصحة أبنائنا من كثرة التوقفات نتيجة تنبؤات في غير محلها.. لعلني أذكر طرفة تعليمية قديمة عمرها يتجاوز (50) سنة أنقلها لمعالي وزير التعليم ومن هم في موقع المسؤولية بحكم أن بعض من المدرسين من الجنسية غير السعودية وبالذات من الدول المجاورة لشمال المملكة العربية السعودية وكنا في المرحلة الابتدائية في الصفوف العليا منها وعلى وشك أن نتمتع بالإجازة الصيفية فرحين من سنة مرهقة، فقد أمرنا مدرس اللغة العربية (من الجنسية الفلسطينية) بنسخ كتاب المطالعة وتتجاوز صفحاته (170) ورقة بخط اليد خلال فترة الإجازة، وبالفعل نفذنا ما طلب منا بحيث خصصنا لكل مرة من النسخ للكتاب (دفتر ذا مائة ورقة ) أي أربعة دفاتر تمثل أربع مرات لكتاب المطالعة قدمناها كطلاب له في السنة التالية، وأشاد بجهدنا بحل الواجب المنزلي (الصيفي) والنتيجة كانت هي (جودة الخط وروعته وسلاسته في المرحلة الابتدائية) وما بعدها من مراحل تعليمية لطلاب تلك الحقبة من الزمن، فيشيد به الآباء والأجداد بقولهم (خطه مثل المطبعة) على عكس طلاب اليوم لا تستطيع أن تقرأ خطه وهو في المرحلة الجامعية، وهل يقبل هذا الأمر من أولياء الأمور أو الطلاب لو طلب ذلك منهم هذه الفترة من الزمن.. أعتقد أن الزمن الجميل أو ما يطلق عليه الجيل الحاضر (زمن الطيبين) هو نبراس لمن أراد أن يقتدي في حب العلم والتعليم في مختلف الظروف (بيئية أو نفسية)، وفي تحمل الشدائد في كافة الميادين، يسندهم ما وصلت إليه التقنية الحديثة ليعيشوا أرقى حياة في حصد الكثير من المكتسبات التي نرى أن جزءا منها يتحقق، لكننا بطبعنا نطمع في المزيد من أجل الوطن وحب الوطن ونماء وعطاء الوطن.