لفائف مدينة هيركولانيوم أنموذجاً ">
مدينة هيراكولانيوم:
وهي مدينة قديمة تقع على منحدرات بركان فيزوف بالقرب من نابولي- إيطاليا، وترجع شهرتها إلى كونها اندثرت ودفنت تحت الركام والحمم البركانية الناتجة عن ثورة بركان فيزوف سنة 79م، وتعتبر هذه الثورة البركانية هي الأكثر تدميراً على مدار التاريخ، والركام الناتج عنها دفن تحته بخلاف تلك المدينة مدينة بومبي وستابيا ومدن أخرى فيما حول خليج نابولي. وقد اكتشفت مكتبة للفافات مكتوبة داخل فيلا (قصر) في مدينة هيراكولانيوم، وقد وصف ذلك القصر الأثرى آماديو مايوري Amedeo Maiuri ويقول مايوري إن ذلك الحدث يعد أهم حدث حضارى وثقافى للتراث الإنسانى في ذلك القرن، وذلك أن سمك الرماد البركاني الذي كان يغطي القصر يتراوح سمكه من 12: 30 متراً.
الاكتشافات الأثرية في هيراكولانيوم:
أول الاكتشافات التي تم تسجيلها في هيراكولانيوم كان من أكتوبر 1752 حتى أغسطس 1754 حيث تم العثور على كثير من الفائف المتفحمة والتي تقدر بحوالي 800 لفافة كتبت باللغة اليونانية واللاتينية منها موضوعات في الفلسفة الإغريقية القديمة ويتراوح عدد مجموعة لفائف هيراكولانيوم بصفة عامة حوالى (1320) لفافة تقريباً جميعها تحتاج إلى التطرية والفرد، وقد تم فرد حوالى (687) لفافة بطرق مختلفة كان أهمها طريقة اللاصق لبياجو The Glue Method of Piaggo واللفائف التي تم العثور عليها كانت في حالة سيئة جداً ومتفحمة بدرجة كبيرة، وكما ذكر فينكلمان Winckelmann عن وصف اللفافات عند العثور عليها أنها كانت متفحمة وذات لون يتراوح ما بين البيج الغامق والأسود، وكانت عبارة عن كتل من اللفائف الملتصقة ببعضها قد تكون 5 أو 6 لفافات وجميعها متفحمة.
حفائر هيراكولانيوم:
بدأت تلك الحفائر في نهاية إبريل 1750م واستمرت مع حدوث بعض فترات التوقف حتى 1761 وكانت تلك الفيلا تحتوى على مجموعة نادرة من التماثيل ومكتبة تتكون نواتها الرئيسية من أعمال أبقراط ومدرسته وكتابات ذات محتوى سياسى وقانونى، وكانت أقدم نواة لتلك المكتبة تم نقلها من أثينا إلى إيطاليا الفيلسوف الإبيقورى فيلادلفوس ويتمثل هذا المستودع المكتبى في مخطوطات تؤرخ من القرن الثالث إلى الأول قبل الميلاد. وفى مايو 1753 عثر على لفافات مغلفة في خزائن من الخشب وأخرى مكومة على الأرض عددها يصل إلى 161 لفافة. وفى عام 1754 تم العثور على 840 لفافة في غرفة صغيرة رباعية الشكل. وقد ألقيت بعض هذه اللفائف لحظة العثور عليها ضمن المواد الناتجة عن الحفر حيث أعتقد عمال الحفر أنها عبارة عن قطع من الخشب المتكربن أو قماش ملفوف أو شباك صيد، وبتمييز هذه اللفافات المتكربنة ظهرت صعوبة فردها من الناحية التقنية وعملية التكربن جعلت الكثير من اللفافات مفتتة وهشة وبعضها الآخر تحجر تماماً. وأدى ثقل المواد البركانية التي كانت ترقد تحتها اللفافات لمدة 17 قرناً إلى تشويه للشكل الاسطواني وتحطم عدد غير قليل منها إلى قطعتين أو أكثر.
الأسباب التي أدت لحفظ لفافات هيركولانيوم (المتكربنة - المتفحمة)
وواقع الأمر أنه حتى اليوم لا يمكن تحديد ما إذا كانت حالات التكربن المختلفة (Carbonization) ودرجات الألوان المختلفة لمخطوطات هيركولانيوم قد نتجت عن عمل حرارة المواد البركانية في ثورة بركان فيزوف 79م، أم ترجع لعملية تحلل تدريجية (Gradual Decomposition)، أم لتباين درجة الحرارة الناتج عن النقل من مكان لآخر داخل القصر الذى عثر بداخله على اللفافات، أم أن هناك عوامل أخرى لعبت دورها. وترتبط الأسباب التي أدت إلى تكربن لفائف هيركولانيوم بظروف دفن المدينة تحت الركام لسنوات طوال، وقد أثار أصل الرواسب التي طمرت المدينة تحتها جدلاً بين الباحثين والدارسين. فحسب رأى البعض فقد دفنت المدينة تحت وابل من الرماد، وفى رأى البعض الآخر فقد دفنت تحت سيول من المواد البركانية، على حين يرى آخرون أن أصل الرواسب هو كتلة سائلة سببتها حركة الرواسب الناتجة عن أمطار قوية هبطت على المدينة في شكل سيل قوى من الطين دفن المدينة تحته تماماً.
درجات ألوان اللفائف:
لون اللفافات المتكربنة يتنوع من اللون الضارب للحمرة إلى البنى الغامق، ودرجات اللون الأسود حتى تصل إلى درجات الكربون سواءً. ويلاحظ أن كل المخطوطات الإغريقية تنتمى لدرجة لونية أكثر سواداً مقارنة بالمخطوطات اللاتينية. ويمكن تفسير اختلاف الألوان أن تلك المخطوطات عُثر عليها في غرفتين مختلفتين ولابد وأن تأثير كتلة البركان وحرارتها كان أقل في واحدة منها.وجدير بالذكر أن أسلوب صناعة المخطوط القديم يمثل عنصراً هاماً لمعرفة درجة مقاومة الورقة للحرارة.كما أن بعض المواد المضافة إلى سطح اللفافات أثناء التصنيع أظهرت تأثير عالى مضاد للنيران أو بمعنى آخر تترك أثراً لا يسمح باحتراق اللفافة بسهولة.
وبصفة عامة فإن مركبات الشبه Alums، (شبه الأمونيا، شبه الصودا، شبه السلفا.. الخ). لديها قدرة مقاومة لأثر النيران معروفة منذ القدم وكان شائع في معالجة الخشب والنسيج بالشبه لجعلهما مقاومين للحرائق، وفى العصر الرومانى كان يتم معالجة أوراق الكتابة باستخدام الغراء وإضافة الشبه التي تجعل الغراء يلتصق جيداً بالسطح، وبالنسبة للفائف اللاتينية التي عثر عليها في هيراكولانيوم فإن الشبه أو الملونات الغنية بالألومنيوم المستخدمة في تشطيب الورقة فإنها تعطى نوع من الحماية ضد الحرارة مما منع اللفائف من الوصول لدرجة التكربن اللازمة للمقاومة في غرفة رطبة، ولهذا السبب فإن المخطوطات اللاتينية وصلتنا في حالة لونية فاتحة مقارنة بالمخطوطات الإغريقية ولكنها متعفنة بفعل الرطوبة ولأنها عانت أكثر من غيرها من أضرار الرطوبة، فقد أظهرت صعوبات كبيرة في عملية فردها، وبالنسبة للفائف التي وجدت فيها الطبقات متلاصقة في بعضها بشدة فإن سبب حفظها يرجع بشكل رئيسى إلى استخدام بعض أنواع من اللواصق المستخدمة في مصانع الورق وقتها والتي انصهرت في البداية مدمرة الكتابة ثم تماسكت من جديد. وهذا يدل على أن استخدام مركبات معينة في مصانع الورق لتحسين البياض واستواء السطح والتنعيم وليونة سطح الكتابة لعب دوراً حاسماً في اختلاف حالات اللون وحفظ نسيج اللفائف بالإضافة لعوامل أخرى أدت إلى الإقلال من الاحتراق الكامل، وبالتالى أنقذت المخطوطات من التحول الكامل إلى رماد.
فرد اللفائف المتكربنة:
عادة ما كانت تستخدم طريقة الترطيب في فرد معظم اللفافات غير المتكربنة، والواقع أن الرطوبة فضلاً عن أنها تعمل على تطرية وفرد سطح الورق المتكربن إلا أنها في كثير من الأحيان تؤدى إلى تحطمه وتفتته، وأحياناً ما نجد صعوبة في عملية الفرد عندما تتعرض المخطوطات المتكربنة المدفونة تحت الرديم لتأثير ثقل الركام، ففى هذه الحالة فإن الأوراق تتلاحم بشدة مع بعضها البعض فتتحطم في بعض الأجزاء وينتج انثناءات وهكذا، فقد ظلت الأوراق الداخلية كاملة. ويلاحظ أن آلة بياجو Macchina di Piaggo هي الأداة الوحيدة التي نجحت إلى الآن في فرد الكثير من اللفائف المتكربنة في هيراكولانيوم. جرت العديد من المحاولات لفرد اللفافات المتصلبة في أعقاب العثور عليها واستخدمت بعض الطرق الكيمائية التي تسببت في أغلب الأحيان لتحطيم المادة نفسها، وقد تم معالجة اللفافات بشكل عام باستخدام محاليل غروية أو مذيبات عضوية حيث كان يتم غمرها تماماً فيها أو يتم نثر المحاليل باستخدام فرشاة على السطح، وفى بعض الأحيان كان يتم لفها في أقمشة مبللة بالمحلول، وجرت بعض المحاولات لصب المحاليل على رؤوس اللفافات والتي كان في استطاعتها التسرب داخل الطبقات التي تساعد على انفصالها.ومن اشهر طرق فرد المخطوطات واللفائف المتفحمة ما يلي:
1- طريقة التقشير الكلى أو نزع اللحاء بالكامل: (طريقة بادرنى)
وهذه الطريقة مارسها لحظة الاكتشاف كاميللو بادرنى Camillo Paderni والذي عمل منذ عام 1750 كأمين لمتحف Portici بهيركولانيوم، وتعتمد هذه الطريقة على:
ترطيب اللفافات باستخدام الفرش بمحلول كحول + ماء + مذيبات. ثم قطع اللفافات طولياً إلى قسمين نصف أسطوانيين متماثلين تقريباً في سمكهما.وباستخدام السكين يتم فصل الأوراق الداخلية حتى الوصول إلى سطح مقبول تظهر عليه الكتابة، وحيث إن اتساع مقاطع اللفافة يقل كلما اقتربنا من القلب، ولذلك فإن أجزاء النص في المقاطع الداخلية تكون صغيرة جداً وتعتبر غير هامة ومن ثم كان يتم إهمالها بدون إجراء أى رسم لها.وعند الوصول لمقطع أوسع يتم نسخ نصه ثم يتم صقله بالسكين لإظهار الطبقة التحتية منه.
2- طريقة الفرد الآلى (طريقة بياجو):
بحث الملك شارل البوربوني Carlo di Barbone لدى السنيور أسمانى Assemani مدير مكتبة الفاتيكان وقتها عن شخص يستطيع أن يفك تلك اللفافات التي وضعها بادرنى جانباً، وفى عام 1753 أرسل إلى نابولي أحد رجال الدين الجنويين ويدعى Antonio Piaggio أنطونيو بياجو كاتب لاتينى وأمين قسم المنمنمات بالفاتيكان. وفى زياراته الثلاثة الأولى لمتحف هيراكولانيوم فعل بادرنى كل ما بوسعه لإقناعه بعدم جدوى أى طريقة أخرى سوى طريقة التقشير، وعرض عليه أسوأ اللفافات والتي ألقاها جانباً بسبب تماسكها الشديد. وفى البداية قام بياجو باستخدام طريقة التقشير تارة وأحياناً يقوم بتثبيت الشظايا التي حصل عليها باستخدام خيوط صغيرة من الحرير يميزها من الخارج حتى يمكن الربط بينهم وتحقيق نوعاً من التدعيم غير أن النتائج كانت سيئة، وفضل بياجو أن يقلع عن العمل خيراً من تدمير تلك اللفافات لمعرفة نوعية الكتابة به. وقد بدأ التعامل مع اللفافات الأفضل حفظاً فيما يغلب الظن عقب رفضه العمل في اللفافات، وبدأ في تصميم آلته الشهيرة، وذلك في عام 1753م والتي ظلت مستخدمة حتى بدايات 1900 وهى التي سمحت بفرد أهم نواة لمجموعة مخطوطات هيراكولانيوم.
وكانت مراحل فرد اللفافات كالتالى:
يتم تحديد الطرف الخارجى للفافة وبداية منه يتم دهان الجهة الخارجية (والتي تكون في أغلب الأحوال خالية من الكتابة) بالصمغ في أجزاء صغيرة (متتبعين التواءات السطح). ويتم تقوية السطح بغراء من (أمعاء الماعز أو الثيران)، وفوق السطح الذى تتم تقويته بهذه الطريقة تلصق خيوط من الحرير متصلة من خلال خطاطيف في الجزء العلوى من الآلة بمفاتيح أخرى موضوعة على الجانبين القصيرين من هيكل الآلة. وعندما يصل الجزء المفرود من النص إلى ارتفاع هيكل الآلة من خلال الشد يتم لفه حول أسطوانة متحركة موضوعة فوق اللوح العلوى، بحيث تصبح اللفافة كلها ملفوفة حول الأسطوانة بعد انتهاء عملية الفرز. وقد أُدخلت تعديلات لاحقة على هذا الشكل الأصلي للآلة، وتوجد عينة للآلة محفوظة في مكتب هيراكولانيوم، وتوجد اثنتان في المتحف الوطنى بنابولي. وبعد ذلك كانت هناك العديد من المحاولات في الفترة من 1850-1962 حيث قام Salvator Ventrella بفصل اللفائف باستخدام بخار الماء، وقد نجحت هذه التجربة نجاحاً جزئياً. أما المحاولات التي تمت في بداية القرن العشرين فكانت نتائجها أفضل بكثير من النتائج التي سبقتها، وبدأت في عام 1906 عندما قام بعض الكيمائيين باستخدام بخار الماء مع زلال البيض والكحول وأعطى نتائج جيدة. وفى عام 1909م استخدم Alfonso Cozzi الألبومين فقط (الزلال) بدون الكحول في عمليات فصل اللفائف عن بعضها. ومن المعالجات الحديثة الناجحة في عملية فصل اللفائف عن بعضها هي محاولات Anton Fackelmann من (1965-1970م)، وقد استخدم الصمغ العربى لأنه مشابه إلى حد كبير مع مكونات اللفائف السيللوزية، كما إنه مادة سهلة ورخيصة وهو من بين المواد التي لا تتلف الكتابات. ومن بعد فاكلمان عهد بالعمل إلى Kunt Kleve أستاذ اللغة بجامعة أوسلو وقامت بفحص العديد من تلك اللفائف مع مجمعة متخصصة (المجموعة النرويجية) واستخدموا طريقة كيموميكانيكية وهى تطوير لطريقة بياجو، وتعتمد تلك الطريقة على استخدام محلول الجيلاتين المذاب في حمض الخليك واستخدام الكحول مع المخلوط، وتختلف كمية الجيلاتين طبقاً لحالة التحجر نفسها ومسامية الورق . ومن الطرق الحديثة في فرد اللفافات المتفحمة الرش من الخارج بخليط من السيليلوز والبولى فينيل اسيتات، وبرفق يتم فرد اللفافة باستخدام ورق يابانى رقيق.
تصوير المخطوطات المتفحمة فوتوغرافياً:
وفكرة التصوير تعتمد على توجيه نسبة من الضوء للفافة المتفحمة فيختلف امتصاص السطح للضوء عن امتصاص مناطق الكتابة مما ساعد على قراءة النص نتيجة للتباين بين سطح اللفافة والحبر.
لذلك، فالاحتمال الوحيد هو التصوير «أبيض وأسود» حيث تظهر الحروف فقط دون الأرضية وهى عملية صعبة عملياً، إلا إنه يمكن تحسين الصورة للأفضل ومعالجتها حتى الحصول على نتيجة أفضل. وأثناء عملية التصوير تكون المسافة بين الفيلم وقصاصات الورق 50سم تقريباً مع استخدام ثلاث لمبات تنجستين موضوعة على مسافات متشابهة قريبة من الكاميرا، ويفضل أن تكون حساسية الفيلم ASA 160 .
والتصوير بالأشعة تحت الحمراء يكون أقل نجاحاً مع فيلم 35مم، كما أن استغلال الإمكانيات المتوفرة بالكاميرا يساعد كذلك على زيادة التباين بين الحبر وسطح اللفافة.
أثناء عملية الإظهار يفضل استخدام مظهر كوداك (D76) ويتم الرج للمظهر 5 ثوان كل 30 ثانية عند درجة حرارة 20 0م.
الكاميرا CDD ذات حساسية حوالى (800) نانوميتر وتعطى صوراً أفضل عند أطوال موجية أكبر، كما أن كاميرا CDD حساسة للأشعة تحت الحمراء القريبة وتعطى درجات وضوح عالية، ولذلك فاختيارها يعتبر جيداً لتصوير وتسجيل المخطوطات المتفحمة.
** **
د. عبد اللطيف حسن أفندي - أستاذ مشارك -كلية السياحة والآثار بجامعة الملك سعود
effendi.eg2002@yahoo.com