د. جاسر الحربش
المستفيد من تسفيه التفكير خارج المألوف والمؤطر لا يطيق المنافسة. انغلاقه على ما يفيده وكفى، يجعله مصمتا وتصادمياً، مع أنه يتصادم مع الآخرين بأكتاف الأتباع والمريدين الذين يرفعونه إلى درجات أعلى مما هو مؤهل له، مكانة وحصانة ومتلكات ووجاهة. المستفيد المنغلق لا يستطيع ولا يطيق توسيع دائرة التحدي الفكري والمقارنات الحضارية المعرفية. هو يدعي أن سلاحه ضد المختلف معه هو الشرع الحنيف لكنه يعرف أنه يتسلح بتوليفة اختيارية مما يجتزؤه من الشرع الحنيف لينتفع به في دنياه. لذلك يفرض على من يخالفه فكريا ً أن يبارزه بما يختاره هو من النصوص المجتزأة وفي ميدانه وبين مريديه وأتباعه.
هكذا تغلق الفرص أمام الأمم في الاستجابة للتحديات العلمية والصناعية والفكرية، وهكذا تتجذر مدارس التكلس والضمور أمام الحضارات المنفتحة على الفكر والمواهب العقلية. المأساة تبدأ في الداخل باستخدام سطوة التحريض الاجتماعي لإسكات وخنق الرغبة في التجديد، ثم تتحول إلى مأساة أمام الخارج وإلى حالة استضعاف ونهب. في هذه الأحوال يصبح الجليد المتجمد مانعا ً لتدفق المياه الدافئة في النهر وهو جزء من هذه المياه. بدون جريان المياه تضمر الحياة ثم تموت وتلتهم جثثها الكائنات المفترسة المنتظرة على الضفاف.
في المجتمعات التي تسمح للمستفيد من تكفير التفكير، يسمى المفكر الطليعي رويبضة ويسمى الرويبضة الحقيقي مفكرا، لأنه في الواقع العملي أكبر من رويبضة فهو رابض في نفس الزمان والمكان ولا يريد التحرك ولا يريد ذلك للآخرين. المتابع للمخاض الحالي المضطرب في المجتمعات الإسلامية المهيضة الجناح أمام كل المجتمعات الأخرى يصدم يوميا ً بكميات الشتائم والانتقاصات والتعديات اللفظية المتبادلة بين المتحاورين على شبكات التواصل الاجتماعي. من الواضح أن القدرة والجرأة على التعدي والتسيب اللفظي غير المنضبط شرعيا وأخلاقيا ترجح كثيرا للمستفيدين من تجريم التفكير خارج المحدد المألوف بالنسبة للذين لا يطيقون المنافسة. النعت بالرويبضة والعلماني والليبرالي أصبحت مجرد فواتح شهية. الأطباق العامرة بالعدوانية تحمل التوصيف بالسفالة والإنحطاط والتزندق والعمالة والدياثه وبما هو أفدح.
المشكلة ليست مع الرابض المستفيد وعدوانيته تجاه الرويبضة المفكر. هذه مشكلة سوف تنتهي حتما ً عندما تبلغ قلوب الجميع حناجرهم بسبب الهزائم المتتالية أمام المجتمعات المنفتحة على التفكير واستعمال الإمكانيات الهائلة التي أوجدها الله في العقل البشري. حينذك سوف تنتهي الحاجة إلى المحرضين الماكثين في المرابض في الزمان والمكان. ونسأل الله ألا يكون ذلك بعد ساعة الصفر وخراب الديار.
في المجتمعات المهيضة الجناح أمام كواسر الحضارات وحتى غربانها يستطيع المحرض، الذي هو الرابض الأكبر، توصيف المفكر الحر بالرويبضة، مستقويا ً بجمهور يحمل رهابا ً تربويا ً ضد تحكيم العقل. يعمد المحرض إلى ربط التفكير خارج المألوف المؤطر بالخروج على الجماعة والتغريب والعمالة للأجانب والترويج للإباحية والانهيار الأخلاقي، وهذه هي ورقته الوحيدة لمحاربة التجديد. الأكبر من المشكلة أن المكرس لها وجود الجماهير الكافية المرتاحة لإحتكار الرأي لصالح الرابض الأكبر، لينقض على الرويبضة الأصغر متى شاء لمجرد أن هذا الرويبضة يريد استعمال العقل مثل الشعوب المتقدمة التي تصنع وتأكل وتفكر وتطور. هذا الواقع المأساوي أسس بالفعل لحالة استلاب إضافية تتمثل في استعداد الجمهور لمسامحة الرابض الأكبر حتى مع نفسه وفي كل هفواته وتعدياته، ولو كانت تجديفية أو افترائية أو جنسية أو تزوير صكوك وسرقة أموال عامة.
الأمثلة على تسامح الجماهير في المجتمعات الإسلامية مع سقطات المستفيدين من استدامة الربض والتربص تتكرر يومياً على الفضائيات والشبكات العنكبوتية، وما توصيف المختلف بالرويبضة سوى الأخف وزناً والأقل سماجة بين أطباق التجاوزات المتكررة.
لا تبتئس أيها القارئ لو وصفك أحدهم بالرويبضة وهو الرابض الحقيقي، أنت رويبضة.. إذا أنت تفكر، ولا تتقدم الأمم سوى باستعمال العقول للتفكير.