أسامة الزيني
في أحد صباحات عام 2001م، وفي مستهل موجة عداء راديكالي ممنهج مع التراث الإنساني، استيقظ العالم على صوت تفجيرات تماثيل في أفغانستان، من قبل عناصر حركة طالبان، ما مثَّل صدمة ثقافية للعالم، وصفها المدير العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة
(يونسكو) في بيان آنذاك بأنها «جريمة ضد الثقافة».
وبعد ثورة 25 يناير المصرية صرح قيادي سلفي على إحدى الفضائيات المصرية، بوجوب تحطيم «الأصنام والتماثيل» التي تمتلئ بها مصر، «لأنها أصنام وأوثان تُعبد من دون الله».
وشهدت تونس تحطيم العديد من التماثيل والمنحوتات بعد (الثورة)، منها النصب التذكاريّ المُكرَّس لرائد تحرير المرأة الطاهر الحداد، وأحد أعمدة التنوير العربي في ثلاثينيات القرن الماضي.
أما ساحة الحرب على التراث الإنساني في سوريا والعراق فاتسعت لأكثر من هاتين الحادثتين، في ظل تعرض أكثر من 300 موقع ذي قيمة إنسانية في سوريا للدمار خلال أكثر من أربع سنوات، حسب ما أعلنت الأمم المتحدة، أبرزها مدينة تدمر الأثرية الشهيرة على يد تنظيم (داعش)، ولم يكتف التنظيم المعادي للتراث الإنساني بإعدام جزء بالغ الأهمية من الذاكرة الإنسانية، بل أقدم التنظيم وبشكل وحشي على إعدام عالم الآثار السوري المعروف خالد الأسعد (82 عاما) الذي عمل طيلة أربعة عقود مديراً للآثار في تدمر، ونال عدة أوسمة من بلدان مختلفة، وله حوالي 40 مؤلفاً عن الآثار في تدمر وسورية والعالم.
أما ما نال التراث الإنساني من تدمير في العراق على أيدي عناصر (داعش) فوصفته صحيفة التايمز البريطانية بأنه «أسوأ تخريب ثقافي منذ النازية»، بعدما أظهر تسجيل مصور نشر على الإنترنت، مسلحين تابعين لتنظيم «داعش» يدمرون آثاراً قديمة في مدينة نمرود العراقية الأثرية، الأمر الذي قال الكاتب البريطاني مايكل بنيون إنه «سيكون له تأثير مفجع على المتاحف حول العالم ومنها: المتحف البريطاني ومتحف اللوفر الفرنسي والعديد من المتاحف التي تحتض أعمالاً فنية لعاصمة الدولة الآشورية- نمرود».
بيد أن التنظيم تخلى عن حالة «اليوتوبيا الجهادية» مع الآثار المنقولة، فقرر بيعها للاستفادة من عوائدها في الإنفاق على عناصره، إذ رصدت صحيفة «إندبندنت» البريطانية، نقلاً عن جوان فرشخ، عالمة الآثار، التي عملت لسنوات بين المدن القديمة في الشرق الأوسط، قولها: إن «داعش» ينهب كل محتويات الأماكن التاريخية التي يستهدفها ثم يبيعها وتستفيد من عوائد بيعها، ثم يفجر المكان بأكمله، كيلا يترك أدلة وراء عمليات النهب.
وإزاء هذا الاستهداف الممنهج من قبل هذه العناصر المتحولة ذهنياً للتراث والثقافة الإنسانية أتساءل: كيف ينجح هذا تنظيم بهذا القدر من الهمجية والبدائية والتطرف في استقطاب من تطوله أيديه من أبنائنا بدعوى أن هذا من الدين، وكأنها المرة الأولى التي يحدثهم فيها أحد عن الدين. حتى إنه ينجح في إقناعهم بأننا «كفرة».
إن شواهد عديدة تؤكد أن نجاح هذه التنظيمات المتخلفة في استقطاب مراهقينا، ليس لأنهم كانوا يمتلكون من الحجج ما جعلهم يتفوقون على ما في عقول أبنائنا من ثقافة، بل لأنه لم يكن في عقول أبنائنا أي قدر من الثقافة أصلاً، وكان وجود أي قدر من الثقافة والإدراك في عقول أبنائنا كفيل بأن يجعلهم يتقززون من هذه الأفكار التي ليس من السهل اكتشاف بطلانها وفسادها وعدم خضوعها لأي منطق؛ لذا يبدو أننا في طريقنا إلى دفع ثمن باهظ، بالإضافة إلى ما دفعناه بالفعل، لعدم اكتراث كثير من دوائر التعليم في بلداننا لشأن القراءة، ولاسيما القراءة الحرة غير المنهجية، مثل حصص المكتبة التي غابت عن خرائط اليوم الدراسي في كثير من الأمصار العربية، فأصبح نشاط الاطلاع لمن أراد من الطلاب، وما أقلَّهم، وتحولت حصة المكتبة على أرض الواقع، إن وجدت، إلى حصة ترفيه لغير المقتنعين بأهميتها من الطلاب، وما أكثرهم. وليس أدل على صحة حديثي هذا ما في تقرير مؤسسة الفكر العربي الصادم الذي تناقلته وسائل الإعلام والذي أظهر أن متوسط قراءة الفرد العربي 6 دقائق سنوياً، في مقابل نحو 200 ساعة للفرد الأوروبي، وحسب إحصاءات منظمة اليونسكو لا يتجاوز متوسط القراءة الحرة للطفل العربي بضع دقائق في السنة، مقابلة 12 ألف دقيقة في العالم الغربي، في دلالة كارثية، على تراجع أسهم أجيالنا من القراءة، وفي مشهد رسوب جماعي في مادة القراءة، بعد تحول مناهجنا الدراسية إلى كبسولات علمية يبتلعها الطالب ليتمكن من اجتياز اختبارات سنوية لا تخرج عن مادة هذه الكبسولات، في حين يبقى الجزء المخصص للثقافة والتفكير الحر والهوية الوطنية والإنسانية صفحة بيضاء بوسع أي عنصر من العناصر التي تتركز مهامها في تجنيد المراهقين أن يسطر عليها ما يشاء من أفكار ومعتقدات جميعها يتركز حول تكفيرنا، وجواز تفجيرنا، أو تصفيتنا بالرصاص، أو نحرنا من الوريد إلى الوريد، إلى آخر قائمة الموت التي تتفنن عناصر الإرهاب في تطويرها، مع كل مدٍّ إرهابي جديد، من أجل عالم أكثر فزعاً.
وتدرك العناصر الإرهابية المتخصصة في تجنيد الشبان تمامًا أن أمامها مساحات فارغة في عقول مراهقين لم يكترث أحد بتطوير آلة التفكير في عقولهم، وتدرك هذه العناصر أيضاً أن مهمتها تتركز في ملء هذه المساحات بما يَخدم تنظيماتها من معلومات، ويَصنع من هذا المراهق تابعاً معصوب العينين لها، مع حرص بالغ على أن تبقى آلة التفكير هذه معطلة، حتى لا يفكر هذا المراهق في قراءة بيانات السلاح الذي يستخدمه فيكتشف أنه «صنع في بلاد الكفار»، وبأيدٍ «كافرة» ماهرة، وأن وجود هذا السلاح في يديه يعني أنه في مهمة لمصلحة أعدائه الذين حشا التنظيم عقله بكراهيتهم.
تعطل آلة التفكير لدى المراهق يجعله متحمساً إلى حد الموت لفكرة الخلافة الإسلامية، فيقف بثبات مبتسماً لمن يطوقون خصره بالحزام الناسف، من دون أن يسأل نفسه: من هذا الخليفة الذي يقاتل تحت رايته حتى الموت؟ من أين أتى بالسلاح الذي يقاتل به؟ من أين أتى بالمال؟ ما الذي يجعل هذا الخليفة واثقاً من امتلاك الحقيقة والحق الكامِلَين إلى حد تكفير كل مخالف له، يُحِلُّ تصفيته جسدياً، حتى إن كان «مجاهداً» مثله، يحارب «الأعداء» أنفسهم، لكنْ ليس تحت رايته؟
إنّ تعطل آلة التفكير لدى مراهقينا الذين انضموا إلى صفوف تنظيم مثل المدعو «تنظيم داعش»، على سبيل المثال، يحول دون أن يفكروا في مدى إخلاص هذا «الخليفة» المزعوم لمبادئه، وإجازته بيع نفط العراق وسوريا للآخر «الكافر»، مقابل الإنفاق على رعيته وتسليحهم؟ أو يفكروا كيف يقبل الخليفة عوائد بيع الآثار «الحرام» لينفق منها على دولته؟ ألم يكن من الأولى هدمها جميعاً، وليس هدم بعضها وبيع بعضها، حتى لا يعبدها الناس؟ مع العلم بأنه يبيعها أيضاً لـ»كفار» ويقبض أثمانها من أيديهم «الكافرة»؟.
تعطل آلة التفكير لدى المراهق يجعل خياله قاصراً عن تصور أي مستقبل افتراضي لدولة المتوهَّمة هذه، بالطبع في حال موافقة دول العالم، الموافقة المتوهمة أيضاً، على قيامها: هل هناك برنامج تنمية أو بناء واحد لدى هذه الدولة؟ هل لديها أي خطة تستدر بها أي مصادر للدخل للإنفاق على «رعيتها» غير بيع النفط المسروق والآثار المهربة والتمويل مجهول المصدر الذي تحصل عليه من أيد خفية في عالم تتقاسم عناصر المخابرات من جميع دوله كواليسه الخفية التي تجعل أي عاقل يمتلك آلة تفكير غير معطلة في رأسه يفكر ألف مرة قبل أن يسلم زمام عقله لغيره؟ هل لدى هذه الدولة أي خطة لأي شيء غير عمليات القتل والتفخيخ التي تمارسها حول العالم؟ هل ستستغني هذه الدولة في حال قيامها عن جميع منجزات البشرية العلمية من صناعات عسكرية ومدنية، فتعود بمواطنيها إلى أزمنة ما قبل التاريخ؟ أم أنها ستستوردها فتعيش بذلك عالة على «كفار» العالم تبيعهم وتشتري منهم في ظل علاقات دبلوماسية كاملة؟ وقد تستفيد من خبراتهم في بناء مؤسساتها الجديدة التي لن يكون لها أي دور في إنشائها سوى رفع رايتها السوداء عليها.
إن تعطل آلة التفكير لدى مراهقينا يجعلهم غير قادرين على إدراك حقائق كثيرة واضحة وضوحَ قُبحِ هذه التنظيمات وتشوهاتِها الفكرية، ومن ثم تجنيبهم سَوْقَهم سَوقَ النعاج إلى مهاوي الردى، وتجنيبنا عواقب تحولهم إلى قنابل موقوتة يلقي بها أعداؤنا وأعداء الحياة والإنسانية في وجوهنا.
إن هناك عشرات الدلائل على أننا لا نواجه أزمة إرهاب، بقدر ما نواجه أزمة قراءة، أزمة ثقافة، فجميع العائدين من معسكرات الإرهاب ممّن منّ الله عليهم بنعمة العقل يؤكدون أن العناصر التي تستخدمها هذه التنظيمات، عناصر جاهلة، أو متعلمة لكنها فارغة العقول، تقاد معصوبة الأعين إلى ما يراد لها من حتوف. فهل من سبيل إلى برنامج تثقيف عربي شامل وفعال يعمم على مدارسنا؟ ولا يهم حينها أن نحدث الصغار فيه عن الإرهاب أو غيره من القضايا الكبيرة، بقدر ما يهم أن نطمئن على تشغيل آلات التفكير في عقولهم، وتنشئتهم على فضيلة الثقافة، وقيم الجمال والأخلاق. لكن هذا يتطلب إيماننا نحن الكبار بهذا أولاً.
أسامة الزيني - شاعر وروائي