لعب الراوي دوراً أساسياً في الحياة الثقافية العربية إذ هو من حفظ موروثها، غير منحازٍ إلى طرفٍ بل منصفاً في نقله بأمانة.
ووُجد الرواة تاريخياً عند العرب قديماً وفي العهود الإسلامية الأولى. ولعلّ أشهرهم حمّاد الراوية، الذي كان من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارها وأشعارها ولغاتها وأنسابها.
وقد جمع المعلّقات السبع وقصائد كثيرةً أخرى من الشعر الجاهليّ. كان نديماً لعددٍ من ملوك بني أمية، حتى توفي مطلع دولة بني العبّاس.
وأخذ عنه الكثير من العلماء. وينطبق هذا على الكثير من رواة الشام والعراق والجزيرة الذين اعتبر كلامهم تاريخاً.
مناسبة هذا الحديث هي فقدنا مؤخراً لواحدٍ من أبرز الرواة المعاصرين في الجزيرة، هو رضا طارف الشمّري (1361-1437 هـ)، الذي غادر عالمنا منذ ما يقرب من شهر.
رضا طارف شاعرٌ وراويةٌ ومرجع. مهما كتبنا عنه فلن نوفّيه حقه. له الكثير من الروايات الممتعة والقصائد الشاملة التي تنبع من الأعماق ويلمس القارئ أو المستمع قربها من الواقع. ينتقي العبارات السهلة والواضحة لتصل إلى الناس. سكن سنوات عمره في البادية بين الإبل وخضرة الربيع فاستمتع بكلّ الفضاء المبهج وتنقل بحرّيةٍ في آفاقٍ مفتوحةٍ ورأى في كلّ شبرٍ مصدر جمالٍ ومتعة. كان يشغل باله ويؤرقه تحوّل الحياة من بساطتها إلى التعقيد، وهكذا يمكن لكلّ تغيرٍ حتى لو كان إلى الأحسن في نظرنا أن يحدث في نفوسٍ أخرى حسرةً على الماضي الذي ألفناه وبين أحداثه مرّت كلّ ذكرياتنا الجميلة، رغم أن المتغيّرات الكثيرة قد تكون مليئةً بالجديد والممتع والمفيد في هذه الدنيا.
والشاعر إذا أهمّه أمرٌ لم تهدأ نفسه حتى ينظم فيه قصيدة تبيّن تلك الخفايا التي تؤرقه والهواجس التي تعتمل في صدره، فيعبّر بالشعر ليريح نفسه ويبثّ شكواه لمن يتلقى قصيدته ليشاركه.
وبالإضافة إلى أنه شاعرٌ متميّزٌ، كان رضا طارف أحد روّاد رواية الشعر والموروث الشعبيّ في المملكة والخليج، وحتى في العراق وسوريا.
يُشهد له بحفظ الكثير من القصائد والروايات الشفهية في الجزيرة العربية. عُرف عنه أنه شاعر الإنصاف. يحرص على رواية القصص والقصائد النبطية التي تعزّز النخوة والشيم الأصيلة والشجاعة والمروءة والرأي. عُرف صوته عبر إذاعات المملكة والخليج وكان ركناً أساسياً في برامجها. ولقي اهتماماً من عددٍ من الباحثين الأوربيين المتخصّصين في آداب وتراث الجزيرة العربية وآخرها كانت زيارة السفير الهولنديّ السابق في المملكة كوربر شوك له، الذي ربطته بالراوية الكبير صداقةٌ دامت لأكثر من عشرين عاماً.
وإذا أردنا أن نحدّد أبرز ميزات رضا طارف ربما أمكننا أن نجملها بما يلي:
* موهبة الحفظ التي مكّنته من جمع مخزونٍ هائلٍ من المرويات والأشعار القديمة، حتى أصبح مصدراً حياً نادر المثال للتراث الشعبيّ في المملكة ومنطقة الخليج، وقاموساً لأشعارها وحكاياتها. يساعده على ذلك ذكاءٌ بدويٌّ فطريٌّ وصفاء ذهنٍ قلّ وجوده في هذه الأيام.
* تحرّي الدقة والصدق بالتأكد من صحّة الرواية، وربما تحمّل عناء السفر بين الدول والبلاد في سبيل ذلك، مع مقارنة الروايات واستحضار الشواهد التاريخية.
* طريقةٌ مميزةٌ في الإلقاء بنبرته الشمالية المحبّبة وصوته الشجيّ الذي لا تخطئه أذن سامعٍ، مما يوشّح القصائد التي يلقيها بنكهةٍ فريدة، مع التريّث والبطء ليعطي كلّ حرفٍ حقّه من الإشباع، مما يجذب إلى الإنصات.
وفي الختام نسأل الله العليّ القدير الرحمة والمغفرة للشاعر والراوية رضا طارف ولجميع المسلمين.
- أحمد نواف فهد الجربا