د. حمود بن محسن الدعجاني
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه أما بعد..
فإن الشريعة الإسلامية شريعة متكاملة، صالحة لكل زمان ومكان، عادلة في تشريعاتها وأحكامها، وهذا يتجلى في موازنة التشريع لأنواع العقوبات الشرعية بأنواع موجباتها، فجعل شدة العقاب مقابل شدة أثر الجريمة، وخطرها على المجتمع الإسلامي أفرادًا وجماعات أما ما يثيره المبطلون من أن العقوبات الشرعية اعتداء على حقوق الإنسان فهذه شبهة باطلة عقلاً وشرعًا، والمتأمل لحال المجتمعات التي تطبق فيها العقوبات الشرعية والتي لا تطبق فيها ليجد البون الشاسع في استقرار تلك المجتمعات، وانتشار الأمن فيها، فيشعر الإنسان بطمأنينة نفسية، وسكينة قلبية، وأمن مستتب، بل إن تطبيق العقوبات الشرعية على المجرمين خير وسيلة للقضاء على الجريمة، وخير وسيلة لحفظ الدماء أن تسفك، والحياة من أن تهدر، والأعراض من أن تنتهك، والأنساب من أن تختلط، والأموال من أن تضيع أو تؤكل بالباطل، والعقول من أن تختل، والدين من أن يتخذ سخرية وهزواً، ومن المعلوم أن المهام التي تسند إلى الإمام ونوابه هي إقامة الحدود والعقوبات الشرعية وكل ما فيه صلاح الرعية، ولا يجوز الافتيات عليه في شيء، حتى لا تكون فوضى يعجز الناس عن تداركها أو قمعها فتسفك دماء وتسرق أموال وتنتهك أعراض ويأكل فيها القوي الضعيف وقد تواتر وتوافر كلام العلماء في هذا بألا يقيم الحدود إلا الإمام أو نائبه.
جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الإمام جُنَّةٌ، يُقَاتَلُ مِنْ ورائه وَيُتَّقَى به، فإن أمر بتقوى الله وعَدَلَ كان له بذلك أجرٌ، وإن يأمر بغيره كان عليه منه» رواه البخاري ومسلم.
قال النووي رحمه الله: «قوله صلى الله عليه وسلم: «الإمام جُنَّة» أي كالستر لأنه يمنع العدو من أذى المسلمين، ويمنع الناس بعضهم من بعض، ويحمي بيضة الإسلام، ويتقيه الناس، ويخافون سطوته.
ومن أهم خصائص النظام الجنائي الإسلامي ما يلي:
1- حمايته للمصالح الضرورية التي جعلها الشرع خمساً هي: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
2- مساواته العقوبة بالجريمة فكل عقوبة مناسبة للجريمة مناسبة تمنع تكرارها.
3- يحمي الفضيلة ويمنع الرذيلة فقد شرعت العقوبات حفاظاً على الفضيلة ومنعاً من انتشار الرذيلة، بينما عقوبات البشر الوضعية مشتقة من أعرافهم دون النظر للفضيلة والعدالة.
4- يشدد العقاب على الجريمة المعلنة لمنع اشتهارها وبالتالي استخفاف الناس بها وانتشارها.
5- يقوم على العدل والإنصاف فالعقوبة تقع على الحاكم والمحكوم، على الغني والفقير والقوي والضعيف.
6- يشفي غيظ المجني عليه وبالتالي يمنع الثأر ويحافظ على استقرار النفوس.
7- يختار المكان المناسب من الجسم لإيقاع العقوبة عليه: فليست غاية العقوبة مجرد المنع من المعاودة، بل المقصود أيضا الزجر والنكال وكف العدوان.
8- يقي المجتمع من انتشار الجرائم ويقضي على الفساد من خلال العقوبة الرادعة التي تمنع الكافة عن الجريمة قبل الوقوع فيها، إضافة للتشديد في بعض العقوبات لصالح المجتمع.
ولو نظرنا إلى مقاصد الشريعة من تشريع العقوبات من خلال النصوص الشرعية وما ذكره أهل العلم فسنجد أن هذه العقوبات وضعت لأجل مقاصد ومصالح عدة نورد بعضها فيما يأتي:
1 - حفظ المصالح الأساسية للإنسان:
فمن مقاصد العقوبات في الشريعة حفظ الضرورات الخمس التي اتفق عليها علماء الأصول والمقاصد وهي الدين والنفس والعقل والنسل أو العرض والمال، وصيانتها من أن تنتهك. سواء من جانب الوجود أي بتثبت أركانها وقواعدها أو من جانب العدم بدرء الاختلال الواقع أو المتوقع فيها. ولو أمعنا النظر في كافة الحدود نجد أنها لا تتجاوز هذه الضرورات فحد الردة شرع للمحافظة على الدين، والقصاص شرع للمحافظة على النفس، وحد الزنا شرع للمحافظة على النسل، وحد السرقة شرع للمحافظة على المال، وعقوبة شارب الخمر شرعت للمحافظة على العقل، وحد الحرابة شرع لحماية الناس والمجتمع من قطاع الطريق ولأي مفسد في الأرض بأي طريق وبأي وسيلة، ولا شك أن العقوبات التعزيرية شرعت أيضاً لحماية تلك المصالح من الاعتداء عليها.
2 - جلب المصلحة للناس ودرء المفسدة عنهم:
فالعقوبات مع ما يصاحبها من ألم تحقق المصلحة للفرد والجماعة على السواء، لإشاعة الأمن والطمأنينة بين أفراد المجتمع، وأيضاً لامتناع الأفراد من اقتراف الجرائم والمحظورات خوفاً وحذراً من العقوبات، وفي هذا مصلحة ظاهرة.
3 - العقوبات هي جوابر لأصحابها:
وهذه الجوابر قد تكون حسية ومادية، كما هو الحال في وجوب ضمان ما أخذه السارق أو الغاصب، وفي الدية للقتل، وغير ذلك.
وقد تكون معنوية ونفسية؛ وذلك بحصول الارتياح وذهاب الغيظ والتشفي والثأر.
قال النبي صلى الله عليه وسلم [لعبادة بن الصامت]: «تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف؛ فمن وفى فأجره على الله، ومن أصاب شيئاً عوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب شيئاً من ذلك في الدنيا فستر الله عليه، فأمره إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه، قال: فبايعناه على ذلك» (أخرجه البخاري في صحيحه).
4 - إرضاء المجني عليه، وإذهاب غيظه ونقمته:
ودفع أخذه بالثأر الذي قد لا يكون عادلاً؛ إذ ترك معاقبة الجاني تؤدي غالباً أو قطعاً إلى الانتقام الذي يؤدي إلى التجاوز والاعتداء في غالب الأحيان، ولذلك وضعت العقوبات، وضبطت الحدود والتعازير من أجل تحقيق النظام بردع المخالفين، وإرضاء المعتدى عليهم بميزان العدل والمساواة والإنصاف.
قال العلامة ابن عاشور -رحمه الله تعالى-: «فمقصد الشريعة من تشريع الحدود والقصاص والتعزيز، أروش الجنايات ثلاثة أمور: تأديب الجاني، وإرضاء المجني عليه، وزجر المقتدي بالجناة».
5 - الرحمة بالمجرم والمجتمع:
فالعقوبة رحمة للمجرم بما فيها من قوة وردع؛ حيث تكفه ابتداء إذا أراد الإقدام، وهي رحمة للمجرم إذا وقع في الجريمة ففي معاقبته تقويم وإصلاح له. ونصرة للظالم بكفه. وردعه عن الاعتداء، وهذه رحمة له، وهي رحمة للمجنى عليه برفع الظلم عنه وأخذ حقوقة من الجاني والعقوبة رحمة لجميع أفراد المجتمع بإقرار الأمن والأمان ونشر الطمأنينة بينهم ليتفرغوا وينعموا بممارسة حياتهم، فالعقوبات الشرعية - كما يذكر - ابن تيمية: هي رحمة من الله بعباده فهي صادرة عن رحمة الخلق وإرادة الإحسان إليهم، ولهذا ينبغي لمن يعاقب الناس بذنوبهم أن يقصد بذلك الإحسان إليهم كما يقصد الوالد تأديب ولده، وكما يقصد الطبيب معالجة المريض.
6 - تأديب الجاني:
وهو راجع إلى المقصد الأسمى وهو إصلاح أفراد الأمة الذين منهم يتقوم مجموعها {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (المائدة:38).
ألم العقوبة مقصود في العقاب، ليقابل هذا الألم اللذة التي حصلت له وقت ارتكابه الجريمة، ولا يعد هذا عيباً في التشريع الإسلامي بل إنه يتمشى مع طبيعة النفس الإنسانية، فبإيقاع العقوبة على الجاني يزول من نفسه الخبث الذي بعثه على الجناية، والذي يظن أن عمل الجناية أرسخه في نفسه؛ إذ صار عملياً بعد أن كان نظرياً.
7 - الزجر والردع:
فالعقوبات في الشريعة تقوم بعملية الردع والزجر بوصفها أفضل ما يكون الردع والزجر، سواء في هذا الردع الخاص مثل العقوبات الاستئصالية التي تقطع دابر الجاني وتقضي على حياته، أو الردع العام بزجر الآخرين عن الوقوع في المحظورات الشرعية والإقدام على الجرائم خوفاً وتوقياً للعقاب الذي أنزل بالمجرمين.
فالعقوبات زواجر، أي أنها موضوعة لأجل زجر المعتدين والجناة وردعهم؛ ولأجل انزجار غير المعتدين وغير الجناة كيلا يفكروا أو يعزموا على الاعتداء والتعدي والانحراف.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: «فكان من بعض حكمته -سبحانه- ورحمته أن شرع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس بعضهم على بعض، في النفوس والأبدان والأعراض والأموال كالقتل والجراح والقذف والسرقة، أحكم -سبحانه- وجوه الزجر الرادعة عن هذه العقوبات غاية الإحكام، وشرعها على أكمل الوجوه المتضمنة لمصلحة الردع والزجر، مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني في الردع؛ فلم يشرع في الكذب قطع اللسان ولا القتل، ولا في الزنا الخصاء، ولا في السرقة إعدام النفس؛ وإنما شرع لهم في ذلك ما هو موجب أسمائه وصفاته وحكمته ورحمته ولطفه وإحسانه وعدله، لتزول النوائب وتنقطع الأطماع عن التظالم والعداوات، ويقتنع كل إنسان بما آتاه مالكه وخالقه، فلا يطمع في استلاب غيره حقه».
8 - إقامة العدل بين الناس ورفع الظلم عن العباد:
فالعقوبات في الإسلام تتوخى العدل ورفع الظلم عن المسلمين، والعدل مبدأ أساس في الشريعة، ولا يعقل أن يتساوى المحسن مع المسيء، والمستقيم مع المجرم، والعقوبات في الشريعة تطبق على الجميع لا فرق بين غني وفقير، أو نسيب ووضيع. ولقد حسم الرسول الأمر كما أورد البخاري في كتاب الحدود: فقال عليه الصلاة والسلام «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها».
9 - إرضاء المجني عليه:
فالعقوبات إذا أنزلت بالجاني فإنها تثلج صدر المجنى عليه، وتزيل غله وغيظه على الجاني، وتمنع الثارات وشهوة الانتقام الفردي.
10 - تطهير المجرم من الذنوب التي حصلت
بفعل الجريمة:
فالعقوبات مطهرة للذنوب في الدنيا كما أورد مسلم في كتاب الحدود عندما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على تلك المرأة التي زنت بعد أن أقام عليها الحد، وتعجب عمر رضي الله عنه من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم: تصلي عليها يا رسول الله وقد زنت، فيرد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم: «لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى»؟
11 - إصلاح الجاني:
وهذا يكون في جرائم التعزير لا الحدود، فالغرض الأساس من التعزير هو تأديب الجاني وإصلاحه، وكما يذكر الفقهاء فإن التعزير شرع للتطهير، ولإصلاح سبيل المجرم وعودته إلى الحياة الطبيعية عضواً نافعاً في مجتمعه.
وهناك من يثير شبهات حول العقوبات الشرعية منها:
أولاً- أن إقامة الحدود الشرعية بصفة عامة (من قتل وقطع ورجم) على المجرمين فيه من القسوة البالغة والوحشية التي لا تتناسب مع عصرنا الحاضر.
والجواب على هذه الشبهة من وجوه:
1- أن هذه الحدود ثابتة في الشريعة الإسلامية لحكم عظيمة قد تظهر لقوم وتخفى على آخرين، فلا يضرنا نحن المسلمين أن عرفنا الحكمة أوجهلناها، فلله الحكمة البالغة في كل تشريع.
2-أنه مما هو مسلم به بين العقلاء أن كل عقاب لا بد فيه من شدة وقسوة، حتى لو ضرب الرجل ولده مؤدبًا له لكان في ذلك نوع من القسوة، فالزعم بوجود عقاب من دون شيء من القسوة مكابرة ظاهرة.
3- إذا لم تشتمل العقوبات على شيء من القسوة والشدة فكيف ستكون رادعة وزاجرة للمجرمين وضعاف النفوس؟!.
4-أننا لو تركنا إقامة الحدود الشرعية لما تزعمونه من القسوة لأوقعنا أنفسنا والمجتمع في قسوة أشد منها، فمن الرحمة بالمجتمع وبالمحدود أن نقيم الحد عليه، ولنضرب مثالاً يقرب المراد: ما قولكم في الطبيب الذي يجري عملية جراحية فيستأصل بمشرطه المرهف بضعة من جسم المريض ليعالجه، أليس في هذا مظهر من مظاهر القسوة؟ بلى، ولكنها قسوة في الجزء المستأصل، رحمة وشفقة في باقي أجزاء الإنسان.
وكذلك نقول في قسوة الحدود، فحرصًا على سلامة جسم المجتمع من الفساد والمرض كان من الحزم والعقل القسوة على الجزء الفاسد منه، ليسلم باقي أعضاء المجتمع.
5- أن الإسلام قبل أن يحكم عليه بالحد قدم له من وسائل الوقاية ما كان يكفي لإبعاده عن الجريمة التي اقترفها لو كان له قلب حي وضمير، لكنه لما أغلق قلبه وألغى عقله ونزع من ضميره الرحمة استحق أن يعاقب من جنس صنيعه.
ثانياً: قالوا إن إقامة الحدِّ تقتضي إزهاقاً للأرواح وتقطيعاً للأطراف، وبذلك تفقد البشرية كثيراً من الطاقات والقوى، وينتشر فيها المشوَّهون والمقطَّعون الذين كانوا يسهمون في الإنتاج والعمل.
والجواب: إن القتل وتقطيع الأطراف في الحدود إنما يكون في حالات ضيِّقة محصورة وهو إزهاق لنفوس شريرة لا تعمل ولا تنتج، بل إنها تعطِّل العمل والإنتاج وتضيِّع على العاملين المنتجين ثمرات أعمالهم وإنتاجهم. ثم إن إزهاق روح واحدة أو قطع طرف واحد في الحدود يؤدِّي إلى حفظ مئات الأرواح وآلاف الأطراف سليمة طاهرة عاملة منتجة. ثم إننا لا نلاحظ المشوَّهين يكثرون في البلاد التي تقيم الحدود، بل يكونون فيها أقل منهم في غيرها. بل الأمر بالعكس من ذلك تماماً؛ فإن الحدود إذا لم تُقم على المجرمين المعتدين كثر المشوَّهون والمعاقون من جراء اعتداءات المجرمين الذين يجدون متنفَّساً وسنداً عند من ينظر إليهم نظرة العطف والرحمة والحنان، وبذلك تضيع حقوق المعتدى عليهم، وتُهدر كرامتهم وليس بعد ذلك للمجرمين حدٌّ ينتهون إليه.
ثالثاً: قالوا إن في إقامة الحدود سلباً لحق الحياة وهو حقٌّ مقدَّس لا يجوز لأحد أن يسلبه، فكيف يسوغ لحاكم أن يسلب محكوماً حقَّ الحياة؟!
والجواب: إن الشارع الحكيم الذي منح حقَّ الحياة وقدَّسه وجعل الدماء والأموال والأعراض محرَّمة بين الناس هو الذي أكَّد ذلك التقديس والاحترام بإقامة الحدود، والمحدود الذي استحقَّ الرجم أو القتل هو الذي جنى على نفسه لأنه لم يحترم حقَّ غيره وعلى نفسها جنت براقش، ولو أنه احترم حقَّ الحياة في غيره لحفظ له حق الحياة في نفسه، وقد قرَّر الله تعالى في كتبه السابقة وفي القرآن الكريم: {أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً..} الآية المائدة: 32.
فالمعتدي على حق الحياة في غيره يعدُّ معتدياً على حقِّ الحياة في نفسه.
رابعاً: قالوا إن إقامة الحدود تقهقرٌ بالإنسانية الراقية وانتكاس بها ورجعة إلى عهود الظلام الدامس والقرون الوسطى.
والجواب: إن العاقل لا يزن القول بالبقعة التي جاء منها ولا بالزمان الذي قيل فيه أو نقل منه، لكن الميزان الذي تقوَّم به الأقوال والقوانين هو ميزان الحق والعدل، والعاقل نصير الحق وناشد للحكمة أنى وجدها وعلى أي لسان وفي أي مكان أو زمان، على أن هذا التشريع أنزله الله من السماء رحمةً وشفقة لأهل الأرض كما ينزل غيثه الذي يحيي به الأرض، إن مجيء ذلك التشريع على لسان نبيٍّ أمِّي من صحراء العرب في القرون الوسطى كل ذلك آية وإعجاز ودليل صدق على أنه تشريع من حكيم خبير على لسان نبي بُعث رحمة للعالمين.
ولإهمال العقوبات الشرعية عواقب وخيمة فمن ذلك:
1- اجتراء الناس على محارم الله ومواقعتهم لحمى الله، والله يغار أن تنتهك محارمه.
2- الاجتراء على حدود توقع في المحادّة لله ورسوله، وذلك موجب للوقوع في الذل والهوان: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ فِى الأَذَلّينَ} (المجادلة: 20).
3- من أخذ بغير حكم الله فقد والى صاحبَ ذلك الحكم وعادى الله ورسوله، ومن أخذ بحكم الله فقد والاه، وقد حكم الله تعالى لمن والاه وكان من حزبه بالقوة والنصر والغلبة، وحكم على من كان من حزب الشيطان بالذل والاندحار: {وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ امنوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَـالِبُونَ} (المائدة: 56).
4- الاجتراء على محارم الله وترك الإنكار على ذلك وعدم إقامة الحدود الشرعية على من وجبت عليه؛ يُلْحِق اللعنةَ بالمجتمع كما لعنت بنو إسرائيل بتركهم التناهي عن الوقوع في المحارم: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه} المائدة: (78-79).
5- وقوع الأزمات الطاحنة والكوارث المدمِّرة والتناحر بين الطوائف والجماعات بسبب انقسام الناس إلى فريق العصاة المجترئون على حرمات الله، وفريقٍ من الضعفة الخانعين لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر فيتمزَّق المجتمع شرَّ ممزَّق.
6- حدوث سنَّة الله في ذلك المجتمع بنزول المصائب والعذاب التي جعلها الله مسببة عن المعاصي والوقوع في حدود الله تعالى:{وَمَا أَصَـابَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}الشورى:30.
7- تضييع الضروريات الخمس التي هي الدين والنفس والعقل والعرض والمال، وبضياعها وتلفها خراب المجتمع وضنك الحياة ودمار العالم.
فالواجب الاجتماع مع ولاة الأمور في هذه البلاد المباركة وعدم التفرق امتثالاً لنصوص الكتاب والسنة التي أمرت بالاجتماع على إمام المسلمين وعدم التفرق ومن هذه النصوص قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} وقال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وحبل الله هو كتابه، ودينه وأمره الذي أمر به عباده، وعهد إليهم به، وهو الذي أمر بالاجتماع عليه، ونهى عن التفرق فيه قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وهذا الاختلاف المقصود به الذي يكون معه التضليل والمعاداة بعضهم لبعض، ثم بعد ذلك يكون القتال والتفرق وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن الله يرضى لكم ثلاثًا، ويكره لكم ثلاثًا يرضى لكم أن تعبدوه، ولا تشركوا له شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا، ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم، ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال) فهذه النصوص وأمثالها تدل على وجوب جمع كلمة المسلمين واجتناب كل ما يكون سببا للخلاف، حتى في مسائل العلم الاجتهادية التي ينشأ عنها تفرق، ومعاداة، وتكفير، وتفسيق، ولعن، وذلك لأن الاجتهاد السائغ لا يبلغ مبلغ الفتنة، والفرقة إلا مع البغي والعدوان، ولهذا قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ فِهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}، وقوله تعالى: {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} فبيَّن تعالى أن الاختلاف الموجب للفتنة والفرقة إنما هو بغي، وعدوان، فلا تكون فتنة وفرقة مع الاختلاف السائغ شرعًا وكل ما أوجب فتنة أو فرقة بين المؤمنين فليس هو من الدين، سواء كان قولاً أو فعلاً ولهذا جاءت النصوص عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -بالأمر بقتل من خرج بطلب السلطة، والمسلمون لهم سلطان قائم، لما في ذلك من الفتن والتفرق كما في صحيح مسلم عن عوف بن عرفجة قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم -يقول: (ستكون هنات، وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان) وفي النسائي، وعن أسامة بن شريك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه سلم -: (أيما رجل خرج، يفرق بين أمتي فاضربوا عنقه) وفي صحيح مسلم والنسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة، فمات مات ميتة جاهلية، ومن قتل تحت راية عُمِيّة، بغضب لعصبية، أو يدعو إلى عصبية، فقتل، فقتلة جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي بعهد ذي عهدها، فليس مني، ولست منه) وفي الصحيحين، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من كره من أميره شيئًا فليصبر، فإنّه من خرج من السلطان شبرًا مات ميتة جاهلية) والمقصود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حذر من الخروج عن الطاعة، ومفارقة الجماعة وذم ذلك، وجعله من أمر الجاهلية، لأن أهل الجاهلية، لم يكن لهم رئيس يجمعهم، وشأنهم التفرق والاختلاف، ويرون السمع والطاعة مهانة وذلة، والخروج عن الطاعة وعدم الانقياد عندهم فضيلة، يمتدحون بها فجاء الإسلام مخالفًا لهم في ذلك، آمرًا بالصبر على جور الولاة، والسمع والطاعة لهم في غير معصية، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم الحديث الذي أخرجه الترمذي وصححه (وأنا آمركم بخمس أمرني الله بهن، السمع، والطاعة، والجهاد، والهجرة، والجماعة، فإن من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه) وفي خطبة عمر رضي الله عنه المشهورة التي ألقاها في الجابية، قوله: (عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد) وفي صحيح مسلم عن حذيفة، قال: (قلتارسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت: فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي، ويهتدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر. قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها.فقلت: صفهم لنا؟ قال: نعم، قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا. قلت: يا رسول الله فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين، وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على شجرة حتى يدركك الموت، وأنت على ذلك) وفي لفظ آخر: (قلت: وهل وراء ذلك الخير شر؟ قال: نعم. قلت: كيف؟ قال: يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان الإنس. قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك فاسمع وأطع) والإسلام جاء بتأليف القلوب، وجمعها على الحق، ومناصرة المؤمنين، ومعاونتهم على البر والتقوى كما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}.
نسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يؤلف بين قلوبنا، وأن يجمع شملنا، وأن يديم علينا نعمة الأمن والإيمان، وأن يوفق خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده صاحب السمو الملكي محمد بن نايف وولي ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان لمل فيه الخيروالسداد ، والهدى والرشاد ، ولما فيه صلاح البلاد والعباد إنه سميع الدعاء قريب الإجابة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
** **
- وكيل كلية التربية للشؤون التعليمية بشقراء وعضو الجمعية العلمية القضائية السعودية