لافي المطيري ">
لم أكن أعلم ولا أتخيل أن يكون عملي في سفارة خادم الحرمين الشريفين لدى جمهورية ألمانيا الاتحادية تجربة مختلفة ونقطة تحول في حياتي، وأنها لن تشبه تجاربي الأخرى السابقة إطلاقاً وأنها ستكون منعطفاً مهماً في حياتي العملية.
لقد رسم القدر لي نسيجا رفيعا من الحظ الجميل دون أن أعلم بملازمة رجل وُلد من رحم الدولة وترعرع في كنف ثلاثة ملوك وعاصر أزمنتهم لأكثر من عشرين عقداً من الزمن، وهم الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود والملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود - رحمهما الله تعالى - وخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود - أطال الله في عمره وأمده بالصحة والعافية - إنه الوزير والسفير والطبيب والمسؤول والأديب والبروفيسور الإِنسان الذي تعددت مناقبه وتلاشت مساوئه أسامة بن عبد المجيد شبكشي.
كان أشبه ما يكون معاليه بمدرسة مختلفة لا تشبه مدارسنا الماضية، فيها الكثير من الدروس والعبر والحنكة في إدارة العمل الدبلوماسي على أكمل وجه وفيها القوة والصرامة بنفس الوقت في فن المفاوضات في أروقة المؤتمرات والقمم الدولية والإقليمية والمحلية.. كان لا يعرف مبدأ التنازل في أي قضية أو صفقة أو اتفاقية يفاوض فيها والتي تنتهي بالأخير بقبول مطلبه ومطمعه من الجانب الألماني، وكأنه يحمل بيده عصاً سحرية تجعل الطرف الآخر يستجيب لرغباته.
هنا لن أسرف في سرد مهام عمله التي أنجزها على أكمل وجه فلن يسع الوقت لسردها لتعددها وتنوعها، سوف أركز على جوانب أخرى من مسيرة حياته كسفير لخادم الحرمين الشريفين لدى جمهورية ألمانيا الاتحادية، وهي الجوانب والمواقف الإِنسانية التي عاصرتها على مدى ستة أعوام ملازماً لمعاليه لن أنساها ولن ينساها من أسدلت إليه وسوف تبقى عالقة في الذاكرة لا يمحوها الزمن ولا تعاقب السنين.
الموقف الأول الذي دائماً يمر بمخيلتي حدث عندما كنت رئيساً لشؤون السعوديين، حيث أتى مواطن يود رؤية معالي السفير لشرح مطلبه أو مشكلته وطلب مني أن يراه في مكتبه وقلت له سوف اتصل بمعاليه لطلب لقائه، وعندما اتصلت به وشرحت له وضع المواطن قال لي سوف أنزل له إن شاء الله، ثم التفت إلى المواطن وقلت له معاليه سينزل لك الآن، فضحك المواطن وقال هل تمزح معي كيف ينزل معالي السفير لي أنا المواطن العادي وهو سفير لا اصدق هذا إنه مجرد اعتذار لبق من معاليه «تصريفة بالفصحى». قلت له أنا والسفير في خدمتك، وراح يتذمر المواطن بشكل غير اعتيادي ويلقي باللوم على كل من في السفارة، وإذ بمعالي السفير يدخل علينا فجأة، دهش المواطن وكأنه أصيب بصدمة، ومن هول المفاجأة لم يعرف المواطن ما يقول وتلعثم، ثم جلس معاليه في مقعدي واستمع لشكواه وأمر بتحقيق مطلبه، وما من المواطن إلا أن قام وقبل رأسه ثم غادر معاليه إلى مكتبه، لام المواطن نفسه واعتذر عمّا بدر منه لي وخرج من مكتبي والفرحة والسرور يملآن عينيه، هنا تتوقف الكلمات ويعجز التاريخ عن وصف هذا الموقف الإِنساني والأبوي من معاليه يندر أن نراها في كثير من المسؤولين إلا من رحم الله.
أما الموقف الثاني الذي لا يمكن أن ينسى وتعجز الكلمات عن وصفه كان أمام عيني تجسدت فيه روح التواضع الجم التي يمتاز بها معاليه، عندما كنت زائرا أحد الزملاء في مكتبه وهو مقعد على كرسي متحرك وكان قد أجرى عملية جراحية ولم نره منذ زمن، وإذ بمعاليه يدخل علينا فجأة ويقبل رأس زميلنا وهو جالس على مقعده، ويتحمد له على سلامته. لقد كان درساً جميلاً ونبيلاً في تذويب الحواجز بين المرؤوس ورئيسه تجسد في رقي التعامل من معاليه.
أما الموقف الثالث فقد كان معاليه يهم بالخروج من أحد الاجتماعات ومعه ضيف من المملكة ورئيس الغرفة التجارية العربية - الألمانية عبد الله المخلافي ومسؤول المراسم في السفارة السعودية، وعندما ركب الضيف سيارة معاليه وهمّ معاليه بمرافقته وإذا بمعاليه يرى رئيس الغرفة التجارية المخلافي يقف هناك ينتظر سيارته، فذهب إليه وأجبره عنوة على أن يركب بمكانه في سيارته الخاصة وأمر السائق أن يوصله إلى بيته وفضل أن ينتظر أمام الباب الخارجي لحين عودة سيارته، كم هي معان جميلة وفاضلة من رجل كريم.
ومن المشاهد الأخرى الإِنسانية النادرة التي تجلى بها معاليه، حدثت مشاجرة ذات يوم بين مواطن كان يعالج على نفقة الدولة وطبيب عربي متعاقد محلي مع الملحقية الصحية، مما نتج عن المشاجرة جروح ونزيف دماء على وجه الطبيب وعلم معاليه بالخبر وأصر على أن ينزل بنفسه إلى الملحقية الصحية والاعتذار بنفسه للطبيب العربي نيابة عن المواطن وتقبيل رأسه، ما أروعه من مشهد إِنساني سطر فيه معاليه شيم الاعتذار لدى الرجال وقمة الشفافية.
تعتبر المراسم «البروتوكول» في حياة معاليه شيء مقدس وتحتل قدرا كبيرا من الاهتمام من حيث تنظيم وتجهيز المناسبات والاستقبالات الرسمية، فهو يمتاز بدقة عالية وذوق رفيع في اختيار مستلزماتها بعناية فائقة، وامتدادا لتلك الميزة الفريدة والنادرة رسم معاليه أجمل معاني الجود والكرم التي يتصف بها عند الإعداد لوليمة معينة في مقر سكنه، كان لا يأكل إلا بعد أن يقوم بالمساعدة وتوزيع أطباق الطعام بنفسه لنا ولضيوفه مهما كانوا سواء أصحاب سمو ملكي أمراء أو وزراء أو مسؤولين وحتى صغار الموظفين.
ما أجملها من سنة سنها معاليه في الشهر الفضيل شهر رمضان المبارك من كل سنه تتزين سفارة خادم الحرمين الشريفين في قلب برلين بأنوارها الخارجية والداخلية وتصبح كخلية نحل في الليل لتفتح أبوابها لاستقبال المواطنين من مقيمين ومرضى ومبتعثين وسفراء عرب ومسلمين لأداء صلوات التراويح والقيام، يتقدمهم معاليه وبصوت خاشع وإيماني تصدح في جنبات وأروقة السفارة وتفوح منه نفحات الإيمان وقراءة القرآن بصوت الشيخ عبد اللطيف الحبر الذي ينتدب من وزارة الشؤون الإسلامية بحرص ومتابعة شخصية من معاليه.
كل شخص منا لديه نقطة ضعف في حياته لا يستطيع التغلب عليها مهما كانت الظروف أو تعددت الأسباب، وتكمن نقطة ضعف معالي السفير الدكتور أسامة بن عبد المجيد شبكشي في دمعته التي لا يستطع التحكم بها وتأتي دون موعد مسبق، وقد أفصح عنها في عدة لقاءات صحفية.. ولي مع دمعته مواعيد كثيرة منها ذات يوم وقبل مغادرته جمهورية ألمانيا الاتحادية وانتهاء فترة عمله كسفير ببضعة أيَّام، كان قد انتهى من تأليف كتابه الجديد «مواقف وأشهاد» وكنت في حضرته في مكتبه لأداء عمل ما، وعند انتهائي وطلب الإذن منه بالانصراف قال لي «ألا تريد الحصول على نسختك من كتابي « قلت له « بالتأكيد انه لشرف كبير لي» فأخذ نسختي وكتب عليها إهداء بخط يده، وبعد الانتهاء أصر أن يقرأ علي ما خطت أنامله الطيبة، ولما بدأ بالقراءة أخذته نوبة من البكاء أرعبتني وهزت كياني وأقلقت منامي فكتبت أقول:
بصوته الخافت الحزين
قرأ أمامي جملتين
كان قد كتبهما في أول صفحتين
من كتابة الجديد «مواقف وأشهاد»
كانتا لي منه كهديتين
ثم توقف وصمت برهتين
وفاضت من عينيه دمعتين
أحسست أنه يودع ابنه
يودع زميل الستة سنين
نهضت من مكاني وقبلت رأسه
وهمست في أذنه كلمتين
لن أنساك ما حييت
لن أنساك ان طال الزمان
فقد كنت لي كل الصفات الجميلة
وكل ألوان الحنين.
إلى اللقاء على درب الخير نلتقي أيها الرجل الإِنسان أيها الرجل الفاضل: أسامة بن عبد المجيد شبكشي.
- دبلوماسي بسفارة خادم الحرمين في برلين