في العشرين من صفر تمر الذكرى الثالثة لرحيل إنسان عزيز على قلبي. حاولت مسك يراعي لأكتب عنه، فخفق قلبي، وارتجفت يدي، واغرورقت عيني بالدموع. إذ كيف أكتب متجرئاً عن حبيب عرفته عن كثب؟ عن إنسان عزيز لا يزال يعيش في قلبي، ولم يرحل إلا بجسده، حيث ما زالت روحه حية فيني، تعشعش في سويداء قلبي، وتسكن في حشاياه، وتطير في سماه مرفرفة بأجنحتها. إنه زوج أختي أبو حسين علي المطاوعة الذي أعتبره أباً ثانياً لي. ذلك الإنسان الطيب الذي أحبه الجميع فبادلهم الحب أضعافاً، فلم يزعل أحداً منه، وإذا زعل على أحد، أو غضب منه فسرعان ما يعود إليه باشاً محباً، لا يحقد، ولا يحيف عليه، ولا يعاديه مهما كان خطئه.
عاش علي المطاوعة على نيته وصفاء سريرته، يعامل الناس كما يحب أن يعاملوه، ولا يتدخل في شؤونهم ممتثلاً ومطبقاً حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه». وكان - رحمه الله- لا يتكلم بسوء حتى على من أخطأ عليه.
عاش - رحمه الله- يتيم الأب، وحيد والده، ضعيف الحال، مكافحاً، عصامياً، معتمداً على الرحمن، ثم على نفسه متعففاً عمّا في أيدي الناس. فعمل في طفولته في مهنة آبائه وأجداده النجارة، عاملاً عند أحد أقربائه التي سرعان ما أتقنها وبرع فيها. وحين ضاق به الحال في بلاده الأحساء هاجر مع أسرته إلى الدمام، ففتح منجرته الخاصة، فعمل بجد، وإخلاص، وتفان، حيث كان معارفه وغيرهم يفضّلون عمله على غيره، لأنه لا يغالي في الأسعار، ويكتفي بأرباح قليلة، ويتقن ويجود عمله. ومن حبه لمهنته توظّف في بلدية الدمام نجاراً في وقت الطفرة، جامعاً بين العملين الحر والحكومي حين كان النظام يسمح بذلك، وكان كثير من أبناء الوطن يأنفون من العمل اليدوي ويعتمدون على العمالة الأجنبية.
عاش - رحمه الله- أمياً، فتعلّم في مدرسة الحياة فنهل من علومها، وارتاد مجالس الرجال؛ لأنها بمثابة مدارس في ذلك الوقت، يتناقشون فيها في شتى أمور الحياة، فتعلّم منها من خبرات الحياة أكثر مما يتعلّمه شاب اليوم من أمور حياته.
كان - رحمه الله- يصل رحمه، وأقاربه، ومعارفه في كل مكان مهما بعدت المسافة، ومهما كانت ظروفه الصحية، يحضر أفراحهم وأحزانهم، وبقي كذلك إلى آخر حياته. وكان عنده مجلس مفتوح كل ليلة يرتاده محبوه. وكان مضيافاً كريماً يرحب بضيوفه في زمن قلَّ فيه الكرم، وانتشرت فيه ضيافة الاستراحات.
عاش زاهدا يأخذ من دنياه ما يكفيه، فلم يقتن السيارات الفارهة، ولم يسكن الفلل الضخمة على الرغم من غناه، ليس بخلاً، وهو القادر على ذلك!
وكان على أميته محافظاً على أداء الصلاة خاصة صلاة الجمعة التي حرص عليها حتى في مرضه في أيامه الأخيرة في المسجد، وكذلك حرص على حضور المحاضرات الإسلامية للتفقه في دينه، ولقاء الناس.
وفي رمضان 1427 أصابته جلطة أدخل على أثرها المستشفى، وحين بريء منها توالت عليه الأمراض من ضغط، وسكر وغيرها، فمنعه الأطباء من قيادة السيارة ومن العمل اليدوي، فقابل هذا الابتلاء بصبر جميل، وبعدم الشكوى للآخرين، محتسباً الأجر من الله، وتوفي في العشرين من صفر عام 1434 وقد شيَّعه الكثيرون إلى مثواه. وعزاؤنا فيه أنه باق في قلوبنا بروحه، ثم بأبنائه البررة حسين، وعبد الله، ومحمد، وعبد المحسن، وعبد العزيز، وعبد الهادي، وبناته الأربع الذين أبدع في تربيتهم على الدين، والأخلاق الإسلامية، وحب العلم، والشكر لزوجته المخلصة أختي أم حسين التي لازمته صابرة، محبة له أكثر من أربعين سنة، فلله درهم جميعاً. فالسلام عليك يا أبا حسين يوم ولدت، ويوم مت، ويوم تبعث حياً.
- علي الفهيد