خالد الدوس ">
لا شك أن مظاهر التغير الاجتماعي الواسعة التي يمر بها مجتمعنا السعودي.. وتحولاته الثقافية والاقتصادية السريعة التي يشهدها في واقعه المعاصر نتيجة التحديث والمستجدات التي طرأت على سطحه الاجتماعي أدت بالتالي إلى ظهور أنماط جديدة من السلوك الاجتماعي والعادات والتقاليد في كثير من الاتجاهات الفكرية والسلوكية والقيمية،.. ومعروف أن أي تغير يطرأ على أيديولوجية المجتمع لا بد أن ينعكس على الظواهر والمؤسسات والنظم الاجتماعية.. بما فيها النظام الأسري وعلى حياة الناس أنفسهم ونظرتهم إلى المجتمع, والتغير الاجتماعي.. وكما أشار عالم الاجتماع الفرنسي الشهير (جي روشيه) في كتابه التغير الاجتماعي.. يعني التحول الذي يطرأ على البناء الاجتماعي ومكوناته, أي يؤثر في هيكل النظام الاجتماعي في الكل أو الجزء,كالتغير الذي يطرأ على بناء الأسرة، أو النظام الاقتصادي أو النظام الثقافي.. الخ، والتغير الاجتماعي، يعد من السّمات التي لزمت الإنسانية منذ فجر نشأتها حتى عصرنا الحاضر، لدرجة أصبح التغير معها إحدى السّنن المسّلم بها، وهذه التغيرات الاجتماعية، والتحولات الثقافية السريعة التي يشهدها مجتمعنا السعودي في واقعه المعاصر.. ألقت بظلالها على النسيج الأسري ومكوناته, وعلى كثير من الاتجاهات السلوكية والقيمية والفكرية. فبرزت على السطح الاجتماعي بعض الظواهر السلبية.. ولعل من الظواهر المؤسفة التي تمخضت من رحم هذه التحولات المجتمعية وإرهاصاتها داخل البناء الاجتماعي السعودي، ظاهرة «ابتعاد الجار عن جاره», حيث أصبحت هذه الظاهرة الدخيلة.. مرضاً اجتماعياً تتسع دائرتها المظلمة بين أفراد المجتمع وتنمو آثاره ومثالبه وعلله وإسقامه يوما بعد يوم حتى وصلت إلى عجز شبه تام وضمور في العلاقة بين الجيران.. بل إن البعض يسكن بجانب جاره لسنوات عدة ثم يرحل وهو لا يعرف جيرانه ولا يعرفوه..!! والبعض لا يرى جاره إلا في مناسبات العزاء أو الزواج فقط, مع أن الإسلام اهتم بحسن الجوار لتحقيق مبدأ التكافل الاجتماعي الذي له الأثر العظيم في بناء مجتمع سليم متماسك يسيطر عليه مناخ الألفة والمحبة والأمان والتواد.. إلا أن روبط الجيران وتماسكها «اليوم» تغيرت كثيرا في مكوناتها الأخلاقية واتجاهاتها السامية ومنطلقاتها النبيلة.. وذلك باختلاف الزمان والمكان,.. ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة في حسن تعامله مع جيرانه حتى مع غير المسلمين..ونستشهد في هذا السياق الأخلاقي بحديث الصحابي الجليل أنس بن مالك -رضي الله عنه-: قال في سياق أهمية الجار ومكانته في الإسلام» كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض, فأتاه عليه الصلاة والسلام يعوده, فقعد عند رأسه فقال له» أسلم» فنظر إلى أبيه فقال له: أطع أبا القاسم فخرج النبي عليه الصلاة والسلام وهو يقول الحمد لله الذي أنقذه من النار».. وهذا الموقف النبوي النبيل يؤكد حقوق الجار التي اعتنت به الشريعة الإسلامية الغراء وبحقوق الجار سواء كان مسلم أو غير المسلم. ويكفي أن القرآن أوصى بالإحسان إلى الجار فجاءت آيات تحث وتحض على هذا الجانب في قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً}، ولاريب أن مفهوم «حقوق الجار» الذي توارثه الآباء والأجداد على مر السنين لم يعد له حضورا في مضمار نسيجنا الاجتماعي في واقعنا المعاصر.. كما كان في الماضي الجميل. مع تفاوت هذه الأزمة الاجتماعية الأخلاقية باختلاف البيئة من المدينة الحديثة والتحضر الصناعي.. إلى القرى والهجر, وكما أشار عالم الاجتماع الشهير (دوركايم) في نظرية التضامن الاجتماعي.. حيث أكد أن في المجتمعات الصغيرة والتقليدية والقرى يكون تضامنها الاجتماعي قوياً ومتماسكاً, وروابطها متينة وأطلق على هذا النوع من التضامن (التضامن الميكانيكي), بينما في المجتمعات الحديثة والمتحضرة صناعيا يكون تضامنها الاجتماعي واندماج أفرادها (معّقداً) وغير متجانس واقل من التضامن الميكانيكي وأطلق عليه اسم (التضامن العضوي), ومن أهم أسباب تفاقم هذه الظاهرة المجتمعية.. ابتعاد الإنسان المسلم عن القيم الإسلامية الداعية إلى الإحسان بالجار وترسيخ حب الجيرة والامتثال بالوصية المحمدية في هذا الاتجاه الاجتماعي الأخلاقي، كما أن بعض أفراد المجتمع اتجهت بوصلة اهتماماتهم بالبحث عن المصالح والحياة المادية التي طغت على كل شيء وتحسين أحوالهم المعيشية وتناسوا قيمة وأهمية وواجبات «حقوق سابع جار» وتأصيل العلاقة مع الجيران كما حثنا عليه ديننا الإسلامي الحنيف, ومن الأسباب أيضاً ثورة المعلومات والانفجارالتقني في قالبه العولمي وتحدياته الثقافية.. وما حملته هذه الثقافات المستوردة في طياتها من اتجاهات فكرية وسلوكية (وافدة) تمجّد وترسّخ مفهوم الانعزالية في النسيج الاجتماعي.. ساهمت في تأزم حقوق سابع جار, والتعامل مع الجيران بطريقة رسمية تفتقد بالطبع للعلاقات الاجتماعية المبنيّة على التعاون والتكافل والمحبة والوئام والتضحية والقيم الوفائية, فمع دخول الإنترنت والهواتف الذكية بتقنياتها العصرية التي أصبحت جزءا مهما من حياة الكثير من الناس.. ابتعد الجار عن جاره وانشغل البعض في عالمه الافتراضي بما لديه من أجهزة وتقنيات بل إن الكثير منهم قد تأثر بما يشاهده من مسلسلات وأحداث فضائية ترويجية مناهضة للقيم والفكر والوعي, وبالتالي صار يطبقها على أرض الواقع.. الأمر الذي ساهم في تراجع أسهم الزيارات والتواصل بين الجيران في صالة (الحياة المدنية) ومتغيراتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية.. ولعلاج هذه الظاهرة المجتمعية السلبية.. ينبغي تبني حملة وطنية إستراتيجية من المؤسسات الدينية بعنوان: (سابع جار) تهدف لتوعية المجتمع بعامل من عوامل تماسك النسيج الاجتماعي, فالجار عنصر مهم في البناء الاجتماعي وله دور مجتمعي وتربوي وقيمي ووجداني فعال للأسرة والأبناء.. يشاركهم في أفراحهم وأتراحهم. فضلا عن تجسيد الوصية النبوية في حق الجار واجلاله، كما أن منابر المساجد وخطب الجمعة لها دور (بنيوي) في تنوير المجتمع بحقوق الجار.. وطبقاً لإحدى الدراسات الاجتماعية كشفت معطياتها العلمية أن خُطب الجمعة تأثيرها أقوى من تأثير الإذاعة والتلفاز في إيصال الرسالة والمضمون والتوجيه للأفراد وتنوير الفكر.., كما أن مؤسسات التنشئة الاجتماعية الأخرى.. مراكز الأحياء والمدارس ووسائل الإعلام المختلفة لها دور فاعل وبارز في تعميق مفهوم (حقوق الجار) ونشر ثقافته الواعية, وأخيراً وليس آخراً يمكن تدعيم العلاقات الاجتماعية «المفقودة» بحق الجار عن طريق إيجاد «مجالس جيرة» في كل حي لتنظيم اللقاءات الحبية والودية بين الجيران.. والارتقاء بمبدأ حسن الجوار الذي تنعكس آثاره النبيلة، واتجاهاته الإيجابية على تماسك وتضامن ووحدة المجتمع.