في ديوان «حين النوافذ امرأة» لأحمد اللهيب لفتت ذائقتي قصيدة عنوانها «إيراق يوغل في محجر ذاكرتي»، وقد استوقفتني هذه القصيدة؛ لأن اللهيب استطاع من خلالها أن يوظّف التراث توظيفاً يستحق التأمل، وذلك من خلال تخييب انتظار المتلقي -كما يعبر بعض النقاد-.
كان مطلع هذه القصيدة:
ودخلتُ أسواق المدينةْ
في غفلة من أهلها
وهو بهذا التناص يحيل المتلقي من فوره إلى قوله تعالى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا}، غير أن استخدامه لفظة «أسواق» جعل النص يفصح عن النرجسية التي لا تكاد تفارق الشعراء، سواء أشعروا بذلك أم لم يشعروا، إنه - وهو الشاعر- يرى أن دخوله الأسواق أمر يستحق أن يشار إليه، حين يحمل إلى ذهن القارئ قوله تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ}.
إننا - القارئ وأنا- لا نستطيع الجزم بماهية الأسواق التي يعنيها اللهيب في نصه، ولكننا يمكن أن نعتمد على القارئ العُمدة الذي يُعتدّ بدوره في الكشف عن عوامل التأثير في النص وإحالاته، فالأسواق تأتي مشحونة بدلالة سوق الشعر، من قبيل قول الشاعر:
إن القصيد لكاسد في أرضنا
وله هنا سوق بغير كساد
وبخاصة أننا أمام شاعر يقول فيما يلي السطرين السابقين:
وحملتُ أوراقي التي لطختها بأنين ذاكرتي
وأسكنتُ الحروف منابت العينين تنبش في دمي
حزني هناك.
إن أوراقه هي قصائده التي لطخها بأنين ذاكرته وحروفه التي تنبش حزنه في دمه.
وفي ختام النص يقول اللهيب:
وخرجتُ منها خائفاً
أترقب الجدران تنبئني الرحيل
إن ابتداءه للنص بدخول أسواق المدينة، وختمه بالخروج منها يحيل ذاكرة المتلقي إلى قوله تعالى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ}، ويمنح المتلقي فضاء واسعاً يسرد فيه الأحداث التي بين دخوله المدينة وخروجه منها، ولا ريب أن المتلقي سيجعل من الشاعر قاتلاً حين يستحضر قصة موسى - عليه السلام- وقد وكز رَجُلاً فقضى عليه.
كان معظم الأحداث التي عبر عنها اللهيب بين مفتتح النص/دخول المدينة وختامه/خروجه منها، يوحي بأن الشاعر الذي دخل المدينة قد أقام فيها خائفاً يترقب، بدءاً من أوراقه التي لطخها بأنين ذاكرته، وبين شعوره بالخوف من جراء جنايته التي لم يفصح عنها، فهو يسير في حارتها قلِقاً:
أنوار حارتها شحوب الموت أزهر في ربيع الخطوة الأولى
فألقت ليلها في القلب واندثر الضياءْ
ولكن اللهيب يخيب هذا الانتظار بختم النص باحتراف حين يقول:
وخرجت منها خائفاً أترقب الجدران تنبئني الرحيل
حقائبي يغتالها ألمٌ ويلذعني الحنين
وفي المدينة قاتل وأنا القتيل
حمل النص في أحنائه كثيراً من مواطن الدهشة التي تشد القارئ، غير أنه لا شيء أكثر إدهاشاً من أن يتوقع القارئ أن يخرج الشاعر من المدينة وهو القاتل، فيفاجأ بأنه الشاعر كان قتيلاً! كل هذا يحمل المتلقي على أن يعيد قراءة النص قراءة تفكك رموزه لاستكناه ما وراءها.
كان نص اللهيب متماسكاً مترابطاً، إذ جاء مبتدئاً بدخول المدينة، منتهياً بالخروج منها، وقد عبّر الشاعر في أثناء النص عن مشاعر وأحاسيس تنبئ عن نفس قلقة، وكانت ألفاظه دائرة حول هذه القضية فزادت في تماسك النص، يتساوى في ذلك ترادف الألفاظ أو تقابلها كما أشار ابن سنان الخفاجي وعبدالسلام المسدي من بعده.
جاء النص غنياً بالصور من قبيل: ألقت ليلها في القلب، وفي الشبّاك جوع أبيض البسمات، والحلم يلمع من بعيد.
إلا أنه حمل صوراً أجمل منها، نحو: شحوب الموت أزهر في ربيع الخطوة الأولى، بوح يهاجر فيّ يسكب قهوة الذكرى.
وقد جاء النص على (متفاعلن/ البحر الكامل)، إلا أنه ظهرت في وزن القصيدة بعض الكسور التي لا تُقبل من شاعر مثل اللهيب.
- سعود بن سليمان اليوسف