أدأبُ منذ سنوات على مطالعة صفحة (ورَّاق الجزيرة) كلَّ أحد في صحيفة الجزيرة السعودية، لما أجد فيها من مقالات ثرية وفوائد تتصل بأعلام الجزيرة العربية أو تاريخها أو تعريف بكتاب مهم صدر حديثًا. وأول ما أبدأ بمطالعته عمود الأستاذ يوسف بن محمد العتيق المشرف على الصفحة فيما يبدو لي.
وفي عدد الأحد الماضي ذي الرقم (15746) الصادر بتاريخ 26 من المحرم 1437هـ (8/ 11/ 2015م) كتب الأستاذ العتيق كليمة لطيفة بعنوان (مجلة الشتاء وصحيفة الصيف) أشاد فيها بالوعي المبكِّر للأستاذ سليم عنحوري في إصداره عام 1906م مجلة أدبية وثقافية موسمية، تظهر في الشتاء وتحتجب في الصيف، وهذا في رأيه يدل على ريادة ثقافة ومهنية صحفية قبل أكثر من قرن من الزمان. ورأى الحاجة ملحَّة إلى صحيفة لا مجلة تحمل اسم (الصيف) لتبصير قرَّاء دول الخليج بظروف مناخ منطقتنا الحارَّة والسبيل الأمثل للتكيُّف معه.
وأود أن أتعقب الأستاذ الكريم العتيق في أمر لا يتصل بفكرة المقالة ولكن ببطل الموضوع الأستاذ سليم عنحوري؛ فقد صحَّف لقبه وأثبته (عنجوري) بالجيم، وذكر أنه ناشر مصري، وليس بذاك!
ولو أن الأستاذ العتيق رجع إلى ترجمة المذكور لأدرك أنه دمشقي لا مصري، وأن لقبه (عنحوري) بالحاء المهملة لا الجيم، وأنه لغوي وأديب مرموق، شاعر وناثر، ومن روَّاد الصحافة، وحقوقي محام لا مجرد ناشر!
وأول ما يفزع إليه الباحثون عادة للوقوف على سير الأعلام ومصادر تراجمهم الَمعلَمة الثقافية الكبرى لشاعر الشام خير الدين الزركلي (الأعلام) الذي ترجم فيه لصديقه سليم عنحوري ترجمةً استقاها منه شخصيًّا أملاها عليه عام 1912م، وصفه فيها بأنه أديب من الشعراء ومن أعضاء المجمع العلمي العربي، مولده ووفاته بدمشق (1272- 1352هـ = 1856- 1933م).
وقبل أن أذكر موجزًا لسيرته أتوقف لمامًا عند لقبه (عَنْحُورِي) فهو بعين مفتوحة بعدها نون ساكنة فحاء مهملة مضمومة فواو مَدِّية فراء مكسورة بعدها ياء، نسبةً إلى بلدة (عَين حُوْر) التابعة لمدينة الزبداني من ريف دمشق، وتبعد عن دمشق قرابة 60 كم غربًا.
وأسرة عَنحُوري من أسر النصارى القديمة بدمشق من الروم الكاثوليك، هاجر إليها جدهم جرجي عام 1665م في إثر خلاف نشِب بين أهالي بلدتهم.
وقد نبغ من هذه الأسرة عدد من أعلام التجارة والأدب في الشام، واستوطن بعضهم مصر وذاع صيتهم فيها، ولعل الأخ الأستاذ يوسف العتيق أُتي من أن الأستاذ سليمًا كان وثيقَ الصلة بمصرَ كثير التردد إليها، ونشر فيها مجلته (الشتاء).
وهو سليم بن روفائيل بن جرجس عَنحوري، ولد بدمشق وفيها درس وفي بيروت والأستانة. تقلَّد عددًا من وظائف الدولة بين دمشق وعكَّا وحَوران واللاذقية، وكان مقبلاً على المطالعة ومجالسة الأدباء ومراسلة العلماء.
نُصِّب رئيسًا لقلم الجنايات في مجلس عكَّا التمييزي عام 1873م، وكان صديقًا للعلامتين بطرس البستاني وولده سليم، فأقاماه وكيلاً ومراسلاً لمجلتيهما (الجنَّة) و(الجنان).
زار مصر عام 1878م فاتصل بجمال الدين الأفغاني، وحظي لدى الخديوي إسماعيل فرخَّص له إنشاء (مطبعة الاتحاد) ومجلة (مرآة الشرق) وهي سياسية أدبية نصف أسبوعية، ومن أشهر كتَّابها جمال الدين الأفغاني، وعلي يوسف، ولكنه لم يلبث أن تركها بعد تحريره 17 عددًا منها.
قفل عائدًا إلى دمشق - زمن الوالي مدحت باشا - وصار كاتبًا للمدَّعي العام، وتمرَّس بقوانين الدولة وأنظمة العدلية. وفي الوقت ذاته كان يراسل الصحف البيروتية والمصرية.
وانقطع للكتابة والصحافة فتولَّى عام 1879م تحرير القسم العربي بصحيفة (دمشق) السياسية الأسبوعية لصاحبها أحمد عزت باشا العابد، وهي أول جريدة خاصة باللغتين العربية والتركية. ثم أصدر عام 1885م مجلة (مرآة الأخلاق) وهي أول مجلة سورية، وكانت نصف شهرية. واحترف المحاماة عام 1890م، وعمل في تحرير صحيفة (الشام) لصاحبها مصطفى واصف عام 1896م، وهي صحيفة أسبوعية إخبارية وعلمية وسياسية وأدبية.
ثم درج على أن يقضيَ فصل الشتاء في بعض الأعوام بالقاهرة، وأصدر فيها مجلة (الشتاء) عام 1906م، وفي دمشق شارك في تحرير صحيفة (العصر الجديد) اليومية لصاحبها ناصيف أبو زيد عام 1908م، وسمِّي عام 1912م رئيسًا لتحرير صحيفة (المشكاة) اليومية لصاحبها محمد توفيق عطار حسن، وهي سياسية اجتماعية أدبية.
اشتهر بكثرة الشعر وقلة النوم، أخبر الزركليَّ عام 1912م أنه لم ينم منذ ثلاثين عامًا أكثر من ثلاث ساعات في اليوم!
ولمَّا كان من روَّاد النهضة والكتَّاب الأحرار في الصحافة نُفي في أثناء الحرب العالمية الأولى إلى الأناضول، وبقي هناك حتى نهاية الحرب من 1914 إلى 1918م، ونظم فيها ثلاثةً من دواوينه الشعرية.
اختير عضوًا في مجلس الشورى السوري عام 1921م، وهو من الرعيل الأول من الأعضاء المؤسسين للمجمع العلمي العربي (مجمع اللغة العربية بدمشق) وهذا دليل على رفعة منـزلته؛ إذ لم يكن في أعضاء المجمع يومئذ إلا الراسخون في علوم العربية وآدابها. حصل على عدد من الأوسمة العثمانية والمصرية؛ تقديرًا لأدبه وإنجازاته.
خلَّف الأستاذ تراثًا علميًّا وأدبيًّا منه: (كنز الناظم ومصباح الهائم) في فقه اللغة ويسمَّى أيضًا (القلائد الدرية في فرائد اللغة العربية). وفي الشعر: (آية العصر)، و(الجوهر الفرد)، و(سحر هاروت)، و(بدائع ماروت أو شهر في بيروت)، و(السحر الحلال). ومن مؤلفاته: (الجن عند غير العرب)، و(حديقة السوسن) في المرأة وآدابها، و(عكاظ) في الأدب، و(الخالدات) مجموعة مقالات في السياسة والأدب والاجتماع، و(فلسفة الخيال)، و(نهضة الشعر). وفي القصة (الانتقام العادل) غرامية، و(أشيل) رواية أو مسرحية شعرية تُرجمت له عن الفرنسية فصاغها بتصرف ونظم أشعارها، مُثلت في بعض الجمعيات الخيرية بدمشق وبيروت.
أوضح مذهبه الشعريَّ بقوله في مقدمة ديوانه (آية العصر): (علم الله أني لست بالشاعر المتكسِّب، ولا بالمادح المستوهب، بل أنا شاعر فطري بغير صنيعة أستاذ ولا فضل مدرسة، نَظَّام مكثر مطبوع، في عالم الخيال تيَّاه وفي أودية الفكر هيَّام... أسرح مذ كنت يافعًا في حدائق التصوُّر هنيهة، فأنسج القصيدة عفوَ الساعة وفيضَ القريحة، لا مقتديًا بإفرنجي، ولا مهتديًا بتركي؛ لأن بياني لا يشاكله بيان).
وهو القائل في صدر ديوانه (سحر هاروت):
إليك يا وطني المحبوبُ تقدمةً
يُعزى إلى العَجز والتقصير مُنشيها
فاقبل فديتُك ما يُهديك معتذرًا
إن الهدايا على مِقدار مُهديها
وصفه الناقد الكبير مارون عبود في كتابه (روَّاد النهضة الحديثة) بقوله: (شاعر مطبوع، حسن الديباجة، حاول أن يحوِّل الشعر عن مجراه، فقاله في مواضيعَ علمية وأخلاقية وأدبية وفلسفية اجتماعية... فكان رائدَ تجديد فيما نظمه من مواضيع).
يُنظر: (الأعلام) للزركلي 3/ 118، و(موسوعة بطريركية أنطاكية) للأب متري هاجي أثناسيو الجزء الثاني المجلد 9 ص811، و(موسوعة الأسر الدمشقية) لمحمد شريف الصوَّاف 2/ 829- 830، و(معجم المؤلفين السوريين) لعبد القادر عياش ص371، و(معجم الجرائد السورية) لمهيار عدنان الملُّوحي ص448، و(الموسوعة العربية) كتب سيرته فيها نزار بني المرجة 13/ 583، و(سليم العنحوري شاعر ورائد من رواد الصحافة العربية) لسهيل الملاذي، و(معجم صور الشعراء بكلماتهم) لأحمد العلاونة ص85.
- أيمن بن أحمد ذوالغنى