لوحات أو وجوه الفيوم، هي رسومات لوجوه تأسرك ملامحها الشاحبة الحزينة، التي تلفها الأسرار، كما تأسرك زينتها وأناقتها الأخاذة. ناضرة تبدو، تبوح بالغموض، يأخذك حزنها الشفيف النبيل وبهائها الناطق إلى اللامكان. هي تراث إنساني تصويري متميز، شكّل مزجاً فريداً لحضارات وثقافات. فالصور والمفردات مصرية في رمزيتها، يونانية في تقنيتها وملامحها، ورومانية في سياقها الاجتماعي وهيئتها. هذه اللوحات مهّدت لقواعد فنية جاءت بعدها فصارت جسراً يصل في التصوير القديم بفن التصوير اللاحق في العصور الوسطى. لا تزال هذه الوجوه تطل علينا، في أبهاء حلتها في أروقة المتاحف، على جدرانها وفي خزائنها، في أناقة وبهاء.
هذه اللوحات تصاوير شخصية فردية تصور وجه وأعلى الصدر، لرجال ونساء وأطفال، أقدمها يرجع إلى القرن الأول الميلادي، ومعظمها يرجع إلى القرنين الثاني والثالث، وبعضها يرجع إلى القرن الرابع الميلادي. وعلى الرغم من ظهورها في أماكن متفرقة في مصر، من سقارة في شمالها، إلى أسوان في جنوبها، ومارينا العلمين في غربها، وأخميم في وسطها، إلا أنها عُرفت باسم وجوه أو لوحات الفيوم، التي تقع إلى الجنوب الغربي من محافظة القاهرة على مسافة 92 كم، حيث تم العثور على الكثير منها في حالة جيدة. وصار استخدام هذا الإسم للدلالة على الأسلوب المميز لهذه اللوحات أكثر من الدلالة الجغرافية لها.
ويقدر البعض العدد الإجمالي لما تم العثور عليه من هذه الوجوه أو اللوحات بألف لوحة. تسكن مجموعة قليلة منها إحدى قاعات الطابق الثاني من المتحف المصري بالقاهرة، بينما ينتشر أغلبها متفرقة في العديد من المتاحف والمجموعات الخاصة في جميع أنحاء العالم.
وتقتني أفضل المتاحف في أوروبا وأمريكا العديد منها، مثل: المتحف البريطاني ومتحف بتري في لندن، ومتحف اللوفر في باريس، والمتحف المصري في برلين ومتحف درسدن في ألمانيا، ومتحف الآثار في مدريد، ومتحفي بروكلين والمتروبوليتان (في نيويورك)، ومتحف الفنون الجميلة (في بوسطن) والعديد من المتاحف العالمية الأخرى. ولقد ساعدت الظروف البيئية الجافة في الحفاظ عليها، حتى ألوانها لم تفقد سوى القليل من بهاءها ونضارتها، فهي أفضل وأجمل اللوحات الفنية المحفوظة من العصور الكلاسيكية.
وأول ظهور لهذه اللوحات كان في سقارة عام 1615م، على يد النبيل الإيطالي «بيترو ديلا فاله Pietrodella Valle» (م1586-1652) فكان أول من يكتشف ويوصف هذه اللوحات. وفي عام 1887م قام عالم الآثار البريطاني (السير فلندرز بتري Flinders Petrie)، بحفائره في الفيوم بالجبانة الرومانية بمنطقة «هوارة»، حيث كشف عن ما يقرب من 81 لوحة من هذه اللوحات في حالة جيدة من الحفظ ورائعة من الناحية الفنية. وفي نفس التاريخ جمع النمساوي «تيودور جراف Theodor Graf» (1840-1903م)، أحد تجار الآثار المصرية الأكثر أهمية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، نحو 330 من هذه اللوحات من الأهالي أو الأجانب في منطقة الروبيات شمال شرق الفيوم. وعندما عاود (بتري) حفرياته بين عامي 1910-1911م في هوارة وفي منطقة الشيخ عبادة بمحافظة المنيا عثر على 70 أخرى منها، لكنها كانت أقل حفظاً من سابقتها، وعثر العالمي الفرنسي «ألبرت جاييت Gayet» في منطقة الشيخ عبادة أيضاً بين عامي 1896-1911م على عدد من هذه الرسوم تكاد تضارع ما عثر عليه بالفيوم من حيث العدد والجمال ورقي الأسلوب الفني.
وأهم ما تتميز به هذه اللوحات ذلك التفرد وهذا الثراء الفني المميز. ويأتي التفرد من كونها تمثل خروجاً عن الإطار الفني المصري القديم، وإن كانت امتداداً له في الغرض الجنائزي. فهناك مزج فني واضح بين الأصول المصرية القديمة والتأثيرات الوافدة. ونلحظ ذلك في دقائق الحلي وتفاصيل الزينة، وأسلوب تصفيف الشعر، وأناقة الثياب، والهيئة الراقية، والملامح المتناسقة لوجوه النساء. وما تميزت به وجوه الرجال من وسامة شاحبة، والشعر المتمرد أو المنسّق، واللحية المفردة أو التي تصاحب الشارب في إتساق، جميعها تضفي على هذه الوجوه الحيوية، وهو ما أخذته من الفن اليوناني أو الروماني (فن الحياة)، مع ما احتفظته من الفن المصري (فن الموت).
كما يأتي تفردها من واقعية التصوير، فالوجوه قد رُسمت كاملة من الأمام، ملتفّة في بعضها قليلاً إلى اليسار، وتفيض بالمشاعر الإنسانية، فيكسو بعضها حزن شفيف، يثير الانقباض في بعضها الآخر، وإن اتسمت بعض الوجوه بالحيوية وبنظرتها الهادئة وابتسامتها المنكسرة. وهذا يرجع بطبيعة الحال إلى براعة التصوير، المحسوسة والملموسة، الذي تبوح به تفاصيل اللوحات وألوانها.. ويأتي تفردها أيضاً مما تهمس به من عمق المعنى والدلالة واستثارة الخيال، فالعيون الناطقة، الواسعة، العميقة تكفيك منها نظرة حتى تقع أسير تلك النظرة التي تطاردك أينما ذهبت، والشفاه المقبوضة على ابتسامة مخنوقة لا تنفلت منها، بخلاف الحزن الساكن فيها، والجلال الذي يكسو الهيئة العامة ولا يخلو من التأنق اللافت. إن صاحب الحس المرهف، والبصر الواعي، ليدرك أنها وجوه الموتى المليئة بالحياة، وجوه حية متألقة متأهبة لمواجهة الموت في أبهى حلتها.
وتكشف هذه اللوحات عن خبرات متوارثة في الرسم والتصوير، ومهارة في تقديم مظهر نابض بالحياة. فهي تكشف عن معرفة بالبنية التشريحية، وقدرة على استخدام الظل والنور م خلال التدرج في الدرجات اللونية وتأثيراتها، وهو الذي يعطي مظهراً ثلاثي الأبعاد في معظمها.أما ثراءها الفني والجمالي فيتمثل في تنوع تقنية تنفيذها وألوانها، واختلاف ملامح الشخصيات المصورة، والثراء في الأزياء والحلي التي تتزين بها النساء، وتعدد أساليب تصفيف الشعر. فمن ناحية التقنية، نجد أغلبها قد رُسم على لوحات مصنوعة من أخشاب صلبة، وبعضها رُسم مباشرة على لفائف المومياء في منطقة الوجه بعد تغطية القماش بطبقة من الجص، ثم صقلها. وأغلب اللوحات مستطيلة رقيقة، يتراوح سمكها ما بين نصف سنتيمتر وسنتيمترين ونصف وارتفاع يصل إلى 42 سنتمتراً، وعرض حوالي 22 سنتمتراً.
وكان الرسم يتم على الخشب مباشرة، وأحياناً بعد وضع طبقة من الجص وصقلها. وبعد أن يتم الرسم عليها تثبت في فتحة تشبه النافذة في لفائف الكتان، وقد قُطعت لوحات كثيرة من الأطراف لتثبيتها بين اللفائف. ولقد شاع أسلوبان في تلوين هذه الوجوه أو اللوحات، الأسلوب الأول هو أسلوب التصوير الشمعي (إنكوستيك)، وهو أسلوب استحدث في هذه النوعية من الصور، واستخدام في الغالب مع اللوحات الخشبية، وفيه تخلط المواد الملونة المسحوقة سحقاً جيداً بالشمع المصهور السائل، ثم يُرسم به وهو ساخن باستخدام فرش من ألياف النخيل، وفرش أقل سمكاً لرسم التفاصيل، وربما استخدمت آلة حادة لإبراز التفاصيل في الملابس والشعر. أما الأسلوب الآخر، وكان أقدم استعمالاً من الأول، هو أسلوب (التِمبرا)، وفيه تمزج الألوان المسحوقة جيداً بوسيط مائي لاصق مثل الصمغ العربي أو الغراء الحيواني أو بياض البيض، وغالباً ما استخدم مع الوجوه التي ترسم مباشرة على لفائف الكتان، واللوحات الخشبية للأطفال. وفي بعض الصور أو الوجوه، تم استخدام أوراق الذهب لتلصق على اللوحة لتصوير المجوهرات وأكاليل الزهور والتيجان وزخرفة الملابس.
ومن ناحية الثراء في ملامح الشخصيات المرسومة، فقد جمعت بين الملامح الإغريقية والرومانية والمصرية كما في العيون ولونها، وفي الشفاه، وتشريح الرأس والوجه، والعنق، وطبيعة الشعر وغيرها من الملامح.كما تعكس الوجوه ثراءً وتنوعاً في هيئة أصحاب هذه الصور، فمنهم من ينتمي إلى الطبقة العليا من العسكريين وموظفي الخدمة المدنية، والشخصيات الدينية والرياضية، ومنهم من ينتمي إلى الطبقة المتوسطة الثرية أو المقتدرة كمدرس الفلسفة، ومالك السفينة، وحائك الملابس كما سُجل على بعض اللوحات.
وهناك تنوعاً واضحاً في أسلوب تصفيف الشعر، وخاصة في لوحات النساء، فنجدة ما بين القصير والطويل، المفروق من الوسط المنسدل على الجانبين، أو المتجمع للخلف أو لأعلى، أو الحر أو المقيد بتاج أو إكليل من الورد. وهناك شعر الرأس المسترسل أو المجعد، وشعر الذقن المهذب القصير عند الرجال. ومن ناحية الثراء في أشكال الحلي، فنجد منها تنوعاً في الأقراط في الأذن وفي القلائد والعقود الذهبية وفي الأحجار الكريمة. كما نلاحظ فيها ثراءً وتنوعاً في أشكال الملابس، وتصميماتها، وألوانها، والتي عكست في كثير منها تأنقاً واضحاً.هذا الثراء في وجوه الشخصيات، وملامحها، وهيئاتهم، صاحبه وعبَّر عنه ثراءٌ وتعدد لوني على خلفية أحادية اللون، وتنوع وتفاوت في الدرجة اللونية أكسب الألوان أبعاداً أخرى.
بالإضافة إلى استخدام الألوان لتجسيد الأحجار الكريمة في المجوهرات، وسلاسل الذهب في الحلي، وإعطاء دلات نفسية كطغيان الألوان القاتمة على أغلب اللوحات كتعبير عن هيبة الموت وجلاله. هذا بجانب الملامح النابضة بالحياة والتعبيرات التي تستشعرها وتحس بها عند مشاهدتك لها، كل هذا وغيره أضفى على هذه اللوحات تميزاً واضحاً جعل منها تراثاً إنسانياً فريداً وأعطاها مكانة خاصة في عالم التصوير القديم.
- محمد أبو الفتوح غنيم