ودعتنا وودعت هذه الدنيا الفانية صباح الخميس الماضي 23-1-1437هـ ابنتي الغالية مي، ورحلت إلى جوار رب كريم.
هذه الطفلة البريئة التي دخلت عامها الثلاثين هي من أطفال (متلازمة داون)، وهم لمن يعرفهم ويخالطهم أطفال أبرياء، بل ملائكة تمشي على الأرض، وإن اعترضت مسيرة حياتهم بعض الصعوبات الصحية، فميّ الغالية تعرّضت منذ ولادتها لصعوبات في القلب والتنفس والتغذية عام 1986 في الولايات المتحدة.
ولكنها تخطت تلك الصعوبات بحمد الله وفضله ثم بفضل اهتمام ورعاية زوجتي الحنونة الصابرة المحتسبة.
كانت مي الغالية نور المكان الذي تكون فيه وبسمته.
لها أسلوبها الفريد شبه المقنن، فهي تذهب كلَّ يوم لمدرستها الخاصة معي أو مع أحد إخوانها، بعد أن تتأكد من جهوز حقيبتها واكتمال لبسها وحجابها، وحتى ساعتها اليدوية البسيطة.
تدخل مدرستها مسرورة بلقاء معلماتها وزميلاتها، وتعود بعد الظهر لاحتساء القهوة مع والدتها، وعند الغداء تجلس في مكانها المخصص، وتستعجل الطلبات ثم تجلس أمام التلفاز، لتطلب من الخادمة الشاي الخاص في الإبريق الخاص وتتابع برامجها التي تحبها.
كان صوتها وحركاتها مميزة وممتعة وإن كانت مزعجة أحياناً.
أما في آخر اليوم فتشغل المذياع على إذاعة القرآن الكريم وتستسلم للنوم.
كان صباح الخميس الفائت صباحاً غير معتاد، فقد شاءت حكمة المولى عز وجل أن يكون صباح الوداع الأخير.
ودعتنا الغالية وهي نائمة مطمئنة في سريرها. فتركتْنا غير مطمئنين، لمفاجأة الموقف، وصعوبة الفراق!
لن ننسى يا فلذة كبدنا أسلوبك المتميز في كل شيء، ولن ننسى الأيام الصعبة التي مرت عليك في المستشفيات، ولن ننسى ضحكاتك وحتى إزعاجك الحلو.
نحمد الله الكريم الذي وهبنا إياك ونحمده سبحانه أن اختارك إلى جواره، فلله ما أعطى، وله ما أخذ، وكل شيء عنده بمقدار.
وجزى الله زوجتي الغالية خير الجزاء، وجعل ما قامت به لنا جميعا وللغالية مي خصوصاً في ميزان حسناتها، فقد كانت لا يرتاح لها بال، ولا يهدأ لها خاطر، إلا بعد التأكد من أن مي بأفضل حال.
فكم سهرت وتعبت وأنهكت جسمها وتفكيرها، وكم تحملت من أجل راحة مي وسعادتها.
لا نقول إلا ما يرضي ربّنا، وإنا على فراقك يا مي لمحزونون.
ومما يزيدنا صبراً وطمأنينة وثقة بالله تعالى، ويزيح عنا الهم والحزن، أن مي طفلة بريئة ستكون شفيعاً لنا ولأهلها أجمعين إن شاء الله.
اللهم أنزلها الفردوس الأعلى ووالدينا والمسلمين، آمين.
والحمد لله رب العالمين.
وقد جادت القريحة بهذه الأبيات في رثائها رحمة الله عليها:
يا ميُّ يا رحمة قد ساقها الباري
منذ ابتدأتِ مسيرَ العيش في كبَدٍ
كانت عنايةُ ربي دائمًا سندًا
وإذْ كبرتِ فللأهلين مؤنسةٌ
أنت البراءة في أعلى مراتبها
وقد قضى الله أمراً كان كاتبَه
يا رب فاجزِ التي ضحّتْ بصحتها
أعني بذا أمَّها فهْي التي بذلت
واحفظ بنينا وأهلينا لنا سندًا
تركتِ كنزَ مودّاتٍ وأسرارِ
وهل خلا عيشُنا من بؤس أكدارِ؟
وبعده الأمُّ نبعُ الرحمةِ الجاري
وذكركِ الحلوُ يغشى باحةَ الدارِ
وأنت ملهمتي أبياتَ أشعاري
كلٌّ له الحظُّ من رزقٍ وأعمارِ
واكتب لها الخُلدَ في جناتِ أخيارِ
ما تستطيع كمثل البدرِ للساري
وامددْ لهم في جنانٍ ذات أنهار
د. عبدالله بن عبدالرحمن السعدون - كلية علوم الأغذية والزراعة، جامعة الملك سعود