قضيت حياة ملؤها البر والتقى
فأنت بأجر المتقين جدير!!
بينما كنت خارجًا من المسجد بعد صلاة مغرب مساء يوم الثلاثاء ليلة الأربعاء 6-2-1437هـ إذا بهاتف أخي الكريم الدكتور عبدالعزيز بن حمد المشعل يحمل نبأ رحيل.. صديقي ورفيق دربي الشيخ الحبيب عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن محمد المبارك (أبوعبدالله)، كما هاتفني نجله الأكبر الأستاذ عبدالله يعزيني في فقيدهما فقيد الجميع، فتكدر خاطري فجأة لهول ذاك النبأ المحزن الذي صدع قلبي فأوجعه، فما أمر ولا أصعب من فراق الأحبة ولا سيما الفراق الدنيوي، وهذه حال الدنيا بأهلها تجمع ثم تفرق وعزاؤنا دومًا أن الدنيا دار ممر واللقاء الدائم في الدار الآخرة.
فراق أخ كان الحبيب ففاتني
وولى به ريب المنون فأسرعا!!
أجل فرق بيننا وبين من نوده هادم اللذات ومفرق الجماعات، ولقد حلق بي الخيال إلى عصر الطفولة حيث كنا نتلقى الدراسة سويًا في إحدى الكتاب لدى الشيخ المطوع إبراهيم بن خميس -رحمه الله- وعلى نائبه ابنه عبدالرحمن - متعه الله بالصحة والعافية- وقد ختمنا القرآن الكريم على المقرئ الشيخ محمد بن فهد المقرن - رحم الله الجميع- وكنا ننسخ بعض السور والآيات الكريمة على الألواح بمداد من المحابر الخشبية بأقلام من أعواد بعض الأشجار المعروفة في تلك الحقب البعيدة.. وإذا حفظناها أمرنا المطوع بغسلها لنسخ آيات أخرى، وإذا أحسسنا بالتعب والملل ملنا إلى المرح ومزاولة شيء من التسلية وبالألعاب المحببة إلينا لتجديد نشاطنا في الكتابة والحفظ:
(زمن) صحبت به الشبيبة والصبا
ولبست ثوب العمر وهو جديد!!
ولم يدر بخلدنا إِذ ذاك أن الأيام والليالي ستفرق بيننا وتفجعنا بالبين الأبعد..! (فأبوعبدالله) من أقرب الأصفياء إلى قلبي حيث كنا نقضي سحابة يومنا في لهو ومسرات بعيدين عن منغصات الحياة ومتاعبها فأيام الطفولة والدراسة لا تنسى أبد الأزمان، ولقد ولد -رحمه الله- في حريملاء وترعرع بين أحضان والديه، ونشأ في بيئة علم وأدب في بيت والده الشيخ عبدالرحمن بن محمد المبارك امتدادًا للموروث العلمي من جدة رائد الحركة العلمية بإقليم الشعيب بحريملاء والمحمل فضيلة الشيخ محمد بن ناصر المبارك، وكان مسجده المجاور لمنزله يعج بالكثير من طلاب العلم من عدد من البلدان والأماكن البعيدة، وقد تخرج على يديه عدد كبير من العلماء والقضاة والخطباء -رحمه الله- رحمة واسعة - وهذا لا يستغرب على أبي عبدالله لِسِعة أُفُقِه وطول باعه في ميادين العلم والآداب، وقد ترك غيابه قلوب أسرته ومحبيه تعتصر حزنًا ولوعة على فراقه ورحيله عنهم إلى الدار الباقية، فلقد عاش العمر كله حميدة أيامه متمتعًا بالمثالية الحسنة وبالورع والاستقامة، ولقد بدأ حياته الدراسية النظامية - بعد الكتاب- بالمدرسة السعودية الابتدائية بالدرعية، حيث كان والده الشيخ عبدالرحمن أميرًا لها - آنذاك- ثم عين كاتبًا في نفس الإمارة، وعند افتتاح المعهد العلمي بالرياض عام 1371هـ التحق بالقسم التمهيدي به، فواصل الدراسة حتى حصل على الشهادة الثانوية، بعد ذلك عين كاتبًا في مركز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لدى الشيخ عمر بن حسن آل الشيخ - رحم الله الجميع- ثم انتقل كاتبًا إداريًا بوكالة وزارة الحج للأوقاف وشؤون المساجد، وتدرج في عمله هذا حتى عين مديرًا عامًا للشؤون المالية والغلال وشؤون المساجد حتى تقاعد، وكان يتمتع بالحنكة وسعة البال مع الإخلاص بالأعمال المنوطة به، كما أنه على جانب كبير من الأدب وحسن الاستشهاد بجيد الأشعار، فلديه مخزونات واسعة تنضح بالحكم والأمثال والطرائف محلى بعبارات لطيفة تؤنس السامعين، ولنا معه -رحمه الله- ذكريات جميلة لا تغيب حلاوتها عن البال مدى الأيام، وكنا نحيي بعض الأمسيات بأحاديث شيّقة وببعض القصص المفيدة، فما أجمل تلك الأمسيات والليالي المقمرة التي تجمعنا بالأحبة ورفاق العمر أمثاله، ولم يبق من تلك الليالي والأيام الجميلة سوى رنين الذكريات، ولقد أجاد الشاعر العربي مسليًا وناصحًا بإفراغ ما تختزنه محاجر العيون من دمعات حرى أسفًا علماضي الأيام السعيدة المفرحة لأن في إفراغها ما يريح النفس ويخفف من تحسرها حيث يقول:
وليست عشيات الحمى برواجع
عليك ولكن خلِّ عينياك تدمعا!!
ويقول أبو الطيب المتنبي:
وما ماضي الشباب بمسترد
ولا يوم يمر بمستعاد!!
فذكرياتنا مع أبي عبدالله رتل طويل من المسرات، ولا سيما ذكريات الطفولة فهي أبقى ومحفورة في طوايا النفس أقتات منها حينما أخلو بنفسي، أذكر منها حرصنا على ملازمة والدينا إذا دعاهما بعض الجماعة إلى القهوة وفك الريق - الفطور حاليًا- بعد صلاة الفجر في غالب الأوقات فنتبعهما لأجل أن نحظى بشرب كوب من الحليب أو الشاي الذي يندر وجوده في تلك الأيام، فهو حبيب إلى نفوسنا معشر الصغار، فما أحلاها من ذكريات، فقد مضى - أبو عبدالله- لسبيله، وأبقى بيننا طيب ذكره -رحمه الله- فيا ليت أن الله أعطاه فسحة من العمر كي يحقق آماله:
وأرى الحياة لذيذة بحياته
وأرى الوجود مشرفًا بوجوده
فلو أنني خيرت من دهري المنى
لاخترتُ طول بقائه وخلوده
ومن مكارمه ونشاطه المحمود أنه كان عضوًا بارزًا في اللجنة الأهلية بحريملاء التي بدأ نشاطها في مزاولة عملها الوطني في أوائل السبعينيات من القرن الفارط.، وقد تحقق الشيء الكثير من مطالباتهم بتطوير مدينة حريملاء حيث إنها الآن أمست كاملة التشكيل بوجود جميع الدوائر والمصالح الحكومية، فجزى أولئك المخلصين الذين تفانوا في خدمة وطنهم، وضحوا بالكثير من أوقاتهم وأموالهم حتى تحقق ما تمنوه من تقدم ورقي لمساقط رؤوسهم - حريملاء- فغفر الله لمن مات منهم وأسعد الحاضرين المخلصين، ومن صفات - أبي عبدالله- ملازمته المسجد في آخر حياته ومداومته تلاوة القرآن الكريم وتلمس احتياجات الأيتام والأرامل والمساكين، وزياراته البيت العتيق بين وقت وآخر والمكث حول الكعبة المشرفة يتضرع إلى المولى بأن يحسن إليه عند لقائه، وفي الآونة الأخيرة انطوى رداء وظل غالبية أقراني ولِدّاتي من أوفياء أيام الدنيا:
وكيف تلذ طعم العيش نفس
غدت أترابها تحت التراب!!!
وقد خلف ذرية صالحة تدعو له وتجدد ذكره بالعمل الصالح والدعاء له بالمغفرة وبالدرجات العليا في دار النعيم المقيم.. رحم الله الفقيد والهم أبناءه وبناته واخوته وذويه وأسرته ومحبيه الصبر والسلوان {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} البقرة 156.
- عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف