رمضان جريدي العنزي ">
تنصهر الطرق في مدننا تحت تدفق الماء، فتنخلع من سرّة الأرض ليطوق خاصرتها البهية، يلتف الماء حول أعناق جهاتها الأربع، فتصبح الربكة والبركة والبحر والبحيرة والغدير والمستنقع، ويجيء التيه من شدة الاشتباك والازدحام والإغلاق، وتصبح الأنفاق سدودا، والطرقات مثل بحر والممرات نهر، حيث تتلاشى معالم الطرقات والأنفاق، التي يطويها الشقاء والخمول والإرهاق عند كل نازلة مطر، لا يسترها شيء، يتنفس التيه وحده في المنعطفات والأزقة الترابية الموحلة الموحشة، يجيء الماء من كل مكان، ينبعث من حيث لا ندري، يتعكر مزاج الناس المتصدع، تغلي عروقهم المشوية بمراجل السؤال والاستفهام والتعجب، بعد أن تحط كل سحابة ماطرة وتفعل فعلتها العاجلة، حيث تبلل وجوه الناس وأسمالهم وتخرب أمزجتهم لتحيلها إلى أمزجة منكسرة مائلة، حركة المرور في مدننا تتعطل عند كل قطرة مطر، ويصبح وقع السحابة غير السحابة!، وتتعطل بعض الأعمال والنشاطات ويغيب الطلبة وكثير من الناس عن مدارسهم وأعمالهم نتيجة الفعل المناخي وعوامل البنية التحتية الرخوة للطرقات، ويصيب المدن بما يشبه الشلل، وتختفي مظاهر الحركة المعتادة في الشوارع، فلا تسمع إلا ضجيج الماء الهادر في الشوارع وصخبه المدوي، الذي ربما كان هو السبب في تصدع طبقة الإسفلت، وتشقق قشرة الأرض وإسمنت النفق، السحابة الماطرة حين تجيء تتوالى ضرباتها على وجه مدننا، وتتفشى حمى الإعياء بين الناس، ويتفجر النزيف الأنفي، وتظهر على الناس ملامح الإجهاد القلبي، وترتفع حرارة أجسامهم، وتتزايد سرعات تنفسهم ونبضهم، فيضطرب عندهم النبض والرؤية وينخفض ضغط الدم ويرتفع، تتعامد خيوط الماء فوق هامة المدينة الممطورة، فيصب البلل من مسامات أرصفتها وأرضها، فتتعرق طرقاتها وممراتها وأزقتها وتصبح بلون الوحل، وتتبخر برائحة الغرق، ويتلاشى بريق أصدافها وحسنها، وتختفي مفاتنها الأخاذة وقوامها الجميل وجدائلها التي تشبه الذهب، ويتسلق الطين والصدأ إلى قمة جسرها، عامود نورها، والنفق، فتشتبك السيارات المتعبة، وتتصاعد زفرات السائقين، وتتعالى الأسئلة الكبيرة، فيطفو القلق والتوتر والعصبية والنرفزة، فتتزايد معدلات التصرفات العدوانية المتمثلة بالتصادم والشجار، ولا يجد الناس بُدّاً من صب جام غضبهم على أهل المشاريع التي تولد ميتة أو شبه ميتة، وضمائرهم الغارقة في السبات الطويل، وأمانتهم القابعة في غياهب الجبت، ولا يترددون في نعتهم بأقسىأغلظ العبارات، واتهامهم بأنهم لا يفكرون إلا في مصالحهم الشخصية البحتة دون العامة، ويتزايد حنقهم على هؤلاء، إذ ليس من المعقول أبداً أن مدننا كبيرة بحجم سكاني ومساحي هائل مازالت مصارف سيولها غير فعالة بالشكل الأمثل والأرقى والأحسن.
إن مما يؤسف له أن المليارات التي تم صبها لإنشاء قنوات لصرف هذا الكم من السيول وهذا الكم من المياه النازلة والتي تكفي لإنشاء أفضل تصريف سيول في العالم لم تجد طريقها أبداً لتصريف هذه السيول وهذه المياه، والتي تتكرر مشاهدها كل سنة، بل تركت الناس يغرقون في شبر ماء! إنني أتساءل ومثلي كثيرون: لماذا في مدننا عندما يجيء أدنى مطر لا يكون المشهد بهياً سوى في لهجة الكلام وحدود الدهشة والخيال والاستغراب والاستفهام؟!.
ramadanalanezi@hotmail.com
@ramadanjready