د. محمد بن فهد بن عبد العزيز الفريح ">
هكذا أظن! فكيف إذا كان كبير السِّن كبيراً في قدره وفضله وعلمه وسمته وهديه لا أشك في بلوغ ظني اليقين.
في ليلة حافلة, وفي صرح علمي أطلَّ علينا شمس العلم في زمانه صاحب السماحة الشيخ العلامة الفقيه المربي الوقور صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان - حرسه الله ومتع به ونفع بعلومه - ليُحدِّث الأُمة الحاضرة بين يديه, والمستمعة له عبر وسائل النقل السمعية في أقطار الدنيا عن سيرته الذاتية تجارب وذكريات, وحقيقة أني دُهشتُ من العنوان وفرحتُ به كثيراً؛ لأني أعرف أن شيخنا - حفظه الله - من أبعد الناس في الحديث عن نفسه, وفرحت بعنوان اللقاء؛ لأني سأسمع من شيخنا ما سيفيدني - بإذن الله - في مستقبل الأيام.
فكان الدرس الذي لا يُنسى!
لقد أعطى الشيخ درساً عملياً تربوياً روحياً لمن كان له قلب, في البعد والنأي عن كل نافذة من النوافذ التي قد يظهر من خلالها بعض أعماله, وأغلق الباب الذي قد يخرج منه الإشادة بجهوده ومؤلفاته.
كان اللقاء سهلاً والملقي جبلاً.
أعمال جليلة وسنوات طويلة يُسأل عنها شيخنا فيصرف الكلام عنها ويجيب بقوله غفر الله له: (ما ودي أن تطلعوا على ما عندي من قصور ومن ضعف! خلوا عليّ ستر الله)! ومرة يقول:(لا أتحدث عن دروسي ولا عن أعمالي), وأخرى يقول: (ما أنا إلا أقلّ طالب علم), (ما عندي مزية على زملائي).
هضم للنفس وكسر لارتفاعها, وبُعد عن الاستكثار, واستصغار لما قام به من أعمال, وكأن ابن القيم - رحمه الله - يصف لقاء الشيخ بقوله عن العبد الصادق: (لا يرى نفسه إلا مقصراً والموجب له لهذه الرؤية: استعظام مطلوبه, واستصغار نفسه, ومعرفته بعيوبها, وقلة زاده في عينه, فمن عرف الله وعرف نفسه: لم ير نفسه إلا بعين النقصان).
لو لم يكن من اللقاء إلا هذا الدرس لكان من أهم الدروس وأعظمها, فإن طلاب العلم وطالبيه بحاجة ماسة لمثل هذه الدروس العملية, كما أنهم بحاجة إلى القدوة التي يقتدون بها, وبحاجة لشيخ يقتبسون من هديه, والحمد لله أن منَّ الله علينا بإدراك بعض هؤلاء العظماء الذي أوشكت شمسهم على المغيب؛ لأنني أخشى - ولست متشائماً - أن جيل علمائنا الكبار إذا انقضى نحتاج زمناً طويلاً ليخرج لنا من يقاربهم في الصيانة والورع والزهد والعقل والعفاف والمنهج والسمت والدَّل والعبادة والرزانة والبعد عن فتن الدنيا وزخرفها مع صلاح ظاهر, ونصح صادق.
كان في اللقاء فوائد عزيزة, وأوابد كثيرة اقتنصتُ بعضها وهذا مسردها:
1 - الشيخ حمود التلال - رحمه الله - هو شيخ شيخنا الأول حيث قرأ عليه القرآن.
2 - أنهى الشيخ دراسة المرحلة الابتدائية عام 1371هـ, والمعهد العلمي عام 1377هـ, وكلية الشريعة عام 1381هـ.
3 - كانت مكافأة طلاب المعهد العلمي حين كان الشيخ طالباً فيه 170 ريالاً, قال الشيخ غفر الله له: (كانت تكفي الطالب وأسرته.. وفيها خير والحمد لله, وجزى الله حكومتنا أحسن الجزاء).
4 - كان الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - يهدي إلى شيخنا بعض كتبه ومؤلفاته حين كان يزوره في عنيزة.
5 - كان الشيخ إبان دراسته مقبلاً على دروسه في مراحل التّعليم في المعهد والكلية.
6 - أُعفي الشيخ - حفظه الله - من الدراسة التمهيدية في مرحلة الماجستير؛ لقيامه بالتدريس.
7 - كان المشرف على رسالتي الشيخ الماجستير والدكتوراه الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله -.
8 - أول رسالة نوقشت في كلية الشريعة هي الرسالة التي تقدم بها الشيخ.
9 - كان الشيخ عبد الله بن صالح الخليفي - رحمه الله - فقيهاً متضلعاً يحفظ الوقائع التي وقعت له بتواريخها, وقد قال الشيخ متأسفاً عليه بعد دراسته عليه مدة: (حُرمنا منه في آخر سنة أثناء الدراسة بالكلية؛ لأنه أُخذ لقضاء حائل).
10 - درَّس الشيخ - حفظه الله - مادة النحو في كلية الشريعة، وهو بعْدُ لم يتخرج من الكلية.
11 - كان الشيخ - حرسه الله - عميداً للمعهد العالي للقضاء، وكان يلقي المحاضرات على الطلاب مع إدارته للمعهد.
12 - كان الشيخ - رفع الله قدره - هو المقترح أن تكون الدراسة في المعهد العالي للقضاء سنتين مع تقديم بحث تكميلي.
13 - أهم كتب التراجِم والسير عند شيخنا: (تراجِم علماء نجد؛ لقربهم ولارتباطنا بسيرهم).
14 - سُئل عن أحب كتبه إليه وأعزها عليه, فأجاب: (تبيني أمدح كتبي! أنا عندي أن كلها ضعيفة!) (1).
15 - كان شيخنا - حماه الله - يتدارس القرآن بعد صلاة الفجر مع الشيخ صالح الأطرم - رحمه الله -, وقال عنه: (من خيار صحابي الذين أجلس معهم وأستفيد منهم).
16 - ذكر الشيخ أن التواصل مع ولاة الأمر فيما يهم المسلمين أمر واجب, وكان مما قاله: (ما نظهر هذا ولا نقول: تواصلنا وقلنا.. هذه أسرار).
إلى غير ذلك من الفوائد المتناثرة في ذلك اللقاء الثري التربوي المفيد ولو لم يكن فيه من الدرر والفوائد إلا الدرس العملي الذي من أجله كتبتُ هذا المقال لكفى, وبعد هذا يحق لي أن أقول: ما أحلى مجالس الكبار! فجزى الله شيخنا خير الجزاء, ورفع قدره, وأحسن ختامه, وحفظه وحرسه بعينه, اللهم آمين.
(1) حقيقة إني لأعلم عن دور نشر ربحتْ بعد خسارتها بطباعة كتاب واحد من كتب شيخنا كما حدثني صاحبها, وأعلم كُتباً لشيخنا طُبع منها مئات الآلاف من النسخ, وانتشرت في الدنيا, ثم يقول مؤلفها رفع الله قدره:كلها ضعيفة! مع أن الناس يتسابقون إليها, فشيخنا كان الله له لم يسوِّق لكتبه في مقام لو ذكر أحب كتبه إليه لتلقاه الناس بالقبول, فالمقام يستدعيه, ومع ذلك لم يجب.
حقيقة إن في هذا اللقاء تواضعاً يذكرك بمقولة ابن المعتز - رحمه الله -: (أشد العلماء تواضعاً أكثرهم علماً, كما أن المكان المنخفض أكثر البقاع ماء)، وبقول عبد الملك بن مروان - رحمه الله -:(أفضل الناس من تواضع عن رفعة).
دِنْ بالتواضُعِ والإِخْباتِ محتسباً
تفقْ علاءً على أهلِ السياداتِ
فالتربُ لما غدا للرجلِ متطئاً
تمسحَ الناسُ منه في العباداتِ
- عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء