الموازنة بين نمو الاقتصاد والموارد الذاتية بحاجة لمراجعة الإنفاق الحكومي ">
الجزيرة - وحدة الأبحاث والتقارير الاقتصادية:
أشارت قمة العشرين التي عقدت في تركيا مؤخراً إلى أن الاقتصاد العالمي يعمل بشكل غير متوازن حالياً.. وأن على الدول تطبيق سياسات اقتصادية كلية بالتعاون فيما بينها، حيث أوصت بضرورة السعي لتحقيق التوازن بين مؤشر الدين العام للناتج المحلي الإجمالي وبين النمو الاقتصادي، فإن تقارير تؤكد أن تحقيق التوازن سيتطلب منظومة متكاملة من السياسات الاقتصادية والمالية والتعليمية والاجتماعية والعمالية.. وهي تشمل كذلك متغيرات رئيسية أخرى تساهم في النمو إذا ما منحت الفرصة، ويأتي في مقدمتها توظيف وريادة الشباب والمشروعات الصغيرة، أي أن قمة العشرين بدأت تلمح لأول مرة إلى الموارد الذاتية لإعادة التوازن بعيداً عن النطاق التقليدي للإيرادات الحكومية.. ولنسأل لماذا نحتاج للإيرادات الحكومية؟ وما ضروراتها ؟ ومن ثم ما هو الموارد الذاتية المتاحة؟.
الإيرادات الحكومية هي وقود الاقتصاد الوطني وهي التي تُترجم في انفاق حكومي لخدمة المواطن والمجتمع.. فكلاهما في حاجة إلى خدمات عامة مثل التعليم والصحة والنقل وبنية تحتية ومياه وصرف وكهرباء وغيرها.. وبلا هذا الإنفاق على الخدمات العامة قد لا يتمكن الكثيرون من الحصول على المنافع الضرورية وخاصة أن الدولة تقدم هذه الخدمات في كثير من الأحيان إما مجاناً تماماً أو مدعومة جزئياً برسوم رمزية. وكثير من هذه النفقات تحدث بشكل سنوي.. وتتكرر كلية أو جزئية .. والتي يأتي على رأسها الخدمات الصحية.. وهذه الخدمات الصحية جزء منها هو إنفاق على بنية تحتية صحية، والجزء الآخر هو إنفاق تشغيلي.
تزايد النمو السنوي في معدلات الإنفاق على الخدمات الصحية
يوضح جدول (1) أن الدولة تنفق سنويا حوالي 50 مليار ريال على القطاع الصحي، ورغم ذلك فإن القطاع الصحي لم يصل بعد إلى حد الاكتفاء الذاتي ولا يعمل بالمؤشرات العالمية.. فمعدل أسرة المستشفيات لم تتجاوز حتى الآن حوالي 23 سرير لكل 10 آلاف من السكان (وهو معدل منخفض مقارنة بدول العالم الأخرى)، وذلك رغم ارتفاع معدل الإنفاق الحكومي السنوي على القطاع الصحي. لذلك، فإن هناك حاجة ماسة لمراجعة الإنفاق الحكومي الصحي نفسه قبل التفكير في سبل تدبيره.
وتشير إحدى الدراسات الحديثة (عقاب بن عبود لعام 2014م) إلى أنه على المستوى الإجمالي، فإن المملكة من المتوقع أن تكون خلال السنوات العشر المقبلة في حاجة إلى نحو 63 ألف سرير إضافي نتيجة ارتفاع الطلب المتوقع عن العرض المتوقع للقطاعات الصحية الرئيسة الثلاثة، وأن هذه الزيادة ستتطلب إنفاقاً صحياً استثمارياً جديداً يعادل 237.2 مليار ريال.. أي أننا إذا سرنا على المنوال الحالي فإن المملكة تحتاج إلى إنفاق رأسمالي حكومي لا يقل 23.7 مليار ريال، وهو يفوق المعدل الحالي والذي يصل إلى 5-10 مليار ريال، بشكل سيضاعف النفقات الحكومية الإجمالية المطلوبة للقطاع الصحي سنويا لكي تزيد عن 80 مليار ريال سنوياً.. أي أن القطاع الصحي في حاجة لزيادة حجم الانفاق الصحي المعتاد عليه سنوياً.
لماذا البحث عن خيارات بديلة للنفط؟
في ضوء مخاوف استمرار الانخفاض في الأسعار العالمية للنفط، فإن احتمالات كبيرة تؤكد استقطاع أجزاء هامة من الإيرادات النفطية ومن ثم استقطاع جزء هام من الإيرادات الحكومية وبالتالي لن يكون بالإمكان إتاحة النفقات الحكومية المعتادة إلا بتحمل عجز كبير في الموازنة العامة للدولة.. وإذا كان بالإمكان تحمل هذا العجز لسنة أو سنتين، فلن يكون مقبولاً تحمله لسنوات طويلة.. إذن الخيار البديل يتمثل في: البحث في الموارد البديلة للإيرادات النفطية والتي يمكن الاعتماد عليها لتغطية النفقات الحكومية التقليدية بحيث يتم اختصارها إلى النفقات الحكومية المطلوبة إلى أدنى حد ممكن.. فما هي الخيارات المطروحة لذلك؟.
الخيارات البديلة للإنفاق الحكومي في القطاع الصحي
في ظل الأهمية القصوى للخدمات الصحية وضرورة إتاحتها بقيم مدعومة وفي ضوء ضرورة حفاظ الدولة على مجانيتها في كثير من الجوانب، فإن القطاع الصحي يعتبر القطاع الأول والأهم في بنود الانفاق الحكومي.. إلا إنه مع ذلك، يوجد هناك خيارات إستراتيجية متعددة للانفاق على الخدمات الصحية بالمملكة تتمثل فيما يلي:
(1) خيار الخصخصة والإدراج بسوق الأسهم
(2) خيار التأجير والتشغيل BOOT أو BOT أو غيرها
(3) خيار تشجيع القطاع الخاص للانفاق الصحي
(4) خيار تشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر
وبشكل وبآخر يمكن القول بأن الخيارات الأربعة المذكورة أعلاه يمكن أن تختصر الانفاق الحكومي على القطاع الصحي بالمملكة من 60 مليار ريال حالياً إلى أقل من 20 مليار ريال وهي الإنفاق الحكومي للحفاظ على قدر من الخدمات الصحية للفقراء أو أصحاب الدخول المتوسطة.
الموارد الذاتية للقطاع الصحي
ورغم أننا أشرنا أعلاه إلى الخيارات البديلة للإنفاق الصحي، إلا إنه يوجد في الحقيقة خيار آخر للإنفاق، وهو خيار داخلي يتمثل في بناء وحدات ذات طابع خاص لإدارة الموارد الذاتية بالقطاع الحكومي، تعمل هذه الوحدات بعوائد، وهي تجربة قائمة حاليا بالقطاع الصحي السعودي.
وجدير بالإشادة بالإدارة العامة للموارد الذاتية بوزارة الصحة والتي تأسست منذ سنوات عديدة بجهود ملموسة من بعض الكوادر الوطنية والتي تحقق حاليا ما يناهز 300 -500 مليون ريال (أرقام تقديرية) كموارد ذاتية داخل مرافق وزارة الصحة، وهذه الموارد لو تم تطويرها وتوسيع نطاقها ربما حققت ما يناهز مليار أو مليارين من الريالات.. فالموارد الذاتية حاليا تقتصر على العلاج بأجر والتدريب بأجر.. ولكن هذه الموارد (كما يشير مدير عام الموارد الذاتية بالوزارة حاليا أ. عقاب بن عبود) يمكن أن تتسع لكي تشمل ما يلي:
«العلاج بأجر (تقديم الخدمة الطبية لكل الفئات خارج نطاق التأمين الطبي، تغطية التأمين الوهمي)، والتدريب بأجر (للسعودة) ، وعوائد الإعلانات بمرافق وزارة الصحة، وعوائد تأجير المرافق العقارية، وعوائد رسوم التراخيص الطبية، وعوائد مخالفات المحلات التجارية الطبية، وعوائد مركز عالمي لفصل السيامي، وعوائد العلاج العالمي بالمدن الطبية، وعوائد السياحة العلاجية، وعوائد التدريب لغير السعوديين/ غير المقيمين بالمرافق الحكومية، وبناء المنتجعات الطبية الربحية»
إن طريق الموارد الذاتية ليس قاصراً على قطاع الصحة، ولكنه يمكن أن يمتد بسهولة للقطاعات الأخرى..
باختصار إذا كان هو الحال بالنسبة للقطاع الصحي، فإننا يمكن بسهولة أن نتوصل إلى قطاع التعليم يمكن أن يسير بكل أكثر سهولة في طريق تعزيز الموارد الذاتية، وكذلك قطاع النقل والمواصلات والاتصالات والكهرباء ومياه الشرب والصرف وغيرها.. وقد يقتصر الانفاق الحكومي على قطاع البنية التحتية العامة نفسها والانفاق على تشغيل بعض المرافق العامة.. وبذلك نكون قد اختصرنا نسبة تزيد عن 50 % من الانفاق الحكومي المطلوب سنوياً من الدولة.