محمد بن خالد اليحيى ">
ثمة إجماع في أوساط المحللين في الشرق الأوسط أنه لولا تدخل حزب الله في سوريا بدعم من إيران، لكان نظام بشار الأسد قد انهار في عام 2012 ولما برزت ظاهرة داعش بقوتها وشكلها الراهن، ولا حظيت جبهة النصرة والجماعات المتطرفة الأخرى بالقدر الذي نشاهده اليوم من القوة والتأثير على أرض الواقع. ومع التدخل العسكري الروسي الأخير، وصلت المخاطر والمحاذير إلى مستويات عليا غير مسبوقة وتضاءلت بالمقابل آفاق الحل وفرص حقن الدماء في سوريا إلى أدنى مستوياتها.
الملاحظ في هذا السياق أنه منذ توصل المجموعة الدولية (خمسة زائد واحد) إلى اتفاق نووي مع إيران، زادت الأخيرة عملياتها ونشاطاتها الداعمة للميليشيات الشيعية في العراق، ورفعت من عدد أفراد الحرس الثوري في سوريا، وتابعت دعمها لميليشيات الحوثي وعصابات عبدالله صالح في اليمن. كما كشفت البحرين والكويت مؤخرًا عن ضبطهما لشحنات أسلحة وأدوات لتصنيع القنابل لدى جماعات محسوبة على إيران، وأعلن التحالف العربي الذي تقوده المملكة هو الآخر عن مصادرته حمولة من الأسلحة الإيرانية المهربة في قارب للصيد وذلك بالقرب من ساحل صلالة العماني. كل هذا ينبئ عن أن إيران عازمة على متابعة سلوكها العدواني في المنطقة غير عابئة بما تضمنه اتفاقها مع الدول الكبرى!
إن الاتفاق النووي كما يراه الأمريكان هو دفعة مقدمة مقابل الحصول على حسن نية في السلوك الإيراني في المنطقة وخارجها. بيد أن هذا التوقع الأمريكي لم يتجسد على أرض الواقع، بدليل مسارعة الحرس الثوري الإيراني إلى التمادي في أنشطته التخريبية في دول الجوار؛ وعليه فإن التبرير القائم على أن الاتفاق النووي سيشجع إيران على أن تكون دولة مسؤولة تستثمر جهدها في بناء علاقات سلمية مع جيرانها والأسرة الدولية، ليس في الحقيقة إلا وهما زائفان. ففي مقابلة صحفية أجراها الصحافي جون سوبل مع الرئيس الأمريكي أوباما على قناة البي بي سي البريطانية تساءل هذا الصحافي عمّا إذا كان رفع العقوبات بموجب الاتفاق النووي سيسهم بوصول المليارات من الأرصدة الإيرانية المجمدة إلى جماعات متطرفة مثل حزب الله ونظام الأسد بشكل يؤدي إلى زعزعة الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط؟ فجاء رد الرئيس أوباما بما معناه لنفترض أن إيران تابعت مشروعها النووي فإن المخاطر التي ذكرها الصحفي كانت ستبقى قائمة على أية حال، زيادة على حصول إيران على القنبلة النووية. وتابع أوباما قائلاً إن هذا الواقع المفترض كان سيمثل تحديًا إستراتيجيًا أكبر للولايات المتحدة ولإسرائيل وحلفائه الخليجيين. بعبارة أخرى أراد الرئيس أوباما أن يقول إنه من المقبول أن تخلق إيران كل هذه المتاعب والمشكلات طالما أن ذلك لا يترتب عليه حيازتها على القنبلة النووية.
هذا الواقع المؤلم هو الآن حقيقة قائمة وهو نتيجة لعيب موجود في صميم الاتفاق النووي، وهو ما اكتشفه جيران إيران الإقليميون الذين أصبحوا يراقبون بدهشة تكثيف إيران لنشاطاتها المزعزعة لأمن واستقرار المنطقة، إنما هذه المرة، وعلى خلاف ما سبق بمزيد من الثقة التي تظهرها إيران، وبوفرة أكبر في المال، وفوق ذلك كله تحت مظلة الاتفاق النووي.
يجادل البعض، أن الاتفاق النووي مع إيران حقق هدفه الأول والموضوعي وهو منع إيران من حيازة السلاح النووي في المدى القصير على الأقل. لكن يتوجب بالمقابل على هؤلاء ألا ينسوا أبدًا أن إيران تختلف عن باكستان والهند النوويتين وأنها بالمقارنة معهما تشكل خطرًا كبيرًا وداهمًا على المجتمعين الاقليمي والدولي يعود في جوهره وحقيقته إلى أن إيران لديها سجل كبير وحافل في دعم الإرهاب وتصديره، وبذر الشقاق الطائفي والخلافات في البلدان المجاورة، ولهذا بالذات فإن مجرد التفكير بإيران نووية يثير هواجس الرعب والفوضى. وقد ثبت عمليًا من سجل تاريخ التفاوض مع إيران أن المجموعة الدولية المعنية بالملف الإيراني قايضت، في سعيها للحصول بأي ثمن على اتفاق، أهم ما تملكه وهي العقوبات الدولية، مقابل تخلي إيران عن قنبلة لا تملكها أساسًا، أو بالأحرى مقابل احتمال أن تحصل إيران على مثل هذه القنبلة. علاوة على ذلك فإن السبب الوحيد الذي يخول المجموعة الدولية لإعادة فرض العقوبات على إيران، حسب نصوص الاتفاق، هو انتهاك إيران لبنود الاتفاق. لكن المشكلة تكمن عمليًا في صعوبة إعادة فرض العقوبات في حال ضاعفت إيران تدخلاتها في شؤون المنطقة ودعمها لمنظمات إرهابية ولعملائها بالوكالة. كذلك لا يمكن لتلك المجموعة الدولية أن تتراجع، في حال انتهاكات بسيطة للاتفاق، عن سياسة رفع العقوبات الدولية عن إيران. وفقًا لهذا السياق فإن المجموعة الدولية 5+1 قد تكون ساهمت من حيث تدري أو لا تدري في تطبيع سياسات ونشاطات إيران التخريبية في المنطقة ووضعت نفسها مع الغرب في موقف الضعيف المتغاضي عن تجاوزات إيران مهما شكلت من تهديد للأمن الإقليمي وذلك خشية انتشار السلاح النووي في منطقة الشرق الأوسط.
قال مرشد الثورة الإسلامية على خامنئي في رسالة وجهها إلى الرئيس الإيراني روحاني، إن أي تحرك خلال السنوات الثماني القادمة لإعادة العقوبات على إيران بغض النظر عن مستواه أو التبرير المعتمد له بما فيه على ما أسماه «الاتهامات المزيفة لإيران بالإرهاب وانتهاكات حقوق الإِنسان» من جانب الدول الموقعة على الاتفاق النووي، سيعتبر انتهاكًا للاتفاق النووي، وعليه فإن الحكومة الإيرانية ستكون في حل من ذلك الاتفاق، وملزمة لاتخاذ خطوات تتوافق مع المادة 3 من قانون مجلس الشورى الإيراني. بهذا التصريح يرسل خامنئي إشارة واضحة إلى الغرب بأن أي تحرك للضغط على إيران لحثها على وقف أنشطة لا تعتبرها الحكومة الإيرانية مخالفة للاتفاق النووي ستترتب عليه عودة إيران بقوة إلى متابعة نشاطها النووي بالكامل. يتبين مما سبق وبجلاء أن خامنئي يرى أن إيران لديها رخصة مطلقة للتدخل في المنطقة ولدعم الإرهاب وألا أحد قادر على ممارسة أية ضغوط عليها، وهذا كله يعود في أساسه إلى حرص الغرب غير المفهوم على إبرام اتفاق نووي مع إيران مقابل أي ثمن.
قبل الاتفاق النووي، كان الخطر الجيوستراتيجي هو احتمال وجود إيران نووية تُزعزع الاستقرار من خلال عملائها بالوكالة في المنطقة، إلا أن الواقع الجيوستراتيجي الجديد الذي أفرزه الاتفاق هو إيجاد إيران غير نووية (لمدة عشر سنوات فقط) مع اختلافها عن سابقتها بان لديها المال والموارد لإنفاقها، ولديها أيضًا الراحة التامة بأن الغرب ليس لديه الشهية، ولا حتى الوسيلة، للضغط عليها لإجبارها على وقف أنشطتها التخريبية في المنطقة.
إن الخطر الحقيقي والموضوعي في امتلاك إيران للقنبلة النووية لم يكن ليتمثل في إمكانية استخدامها لمثل هذا السلاح، وإنما في إمكانية استمرارها بأنشطتها التخريبية، وزعزعتها للاستقرار بحماية مظلة نووية، وهو ما أعرب عنه الرئيس أوباما في المقابلة المشار إليها أعلاه. المفارقة المؤلمة هي أن إيران قد حصلت من خلال الاتفاق النووي على نفس الحماية التي كانت ستحصل عليها لو أنها صنعت القنبلة النووية؛ وعليه فإن الاتفاق النووي مع إيران هو بذاته قنبلة نووية إنما بوجه آخر.