الجوهرة العنزي ">
تتقدم الأيام وتتغيّر الأحداث ونظن أننا فهمنا شيئاً من فلسفة الحياة، فرغم تقدمنا وفهمنا لبعض الأمور ورغم محاولاتنا سبر أغوارها إلا أننا نكتشف أن عقولنا صغيرة أمام هذه الفلسفة الحياتية التي لا يعلمها إلا صانعها سبحانه.
هي مليئة بكل الأشياء حولنا منها البسيط الواضح ومنها المعقد الذي يفوق إمكاناتنا.. فقط نخضع ونعيشها وهذا قانونها.
فيوماً ما ظننت.. أني كبرت أمام هذه الفلسفة وظننت أني أفهمها، فقط ينقصني الحب.. أو ظناً مني أنني ملكته وبتلك الروعة فهو فوق التشوهات والتلوثات، وهماً عاشته نفسي أنه أسمى المعاني وأرق الخصال وأعذبها، كطائر ملائكي يحلق بعيداً عن دنائس البشر.
اعتقدت لحظه أنه صورة تتسم بالوفاء والصدق.. صورة لا تشوهها المواقف ولا يلوثوها أدعياؤه، تلك الصورة المشوّهة أعادتني إلى الوراء، إلى محطات البراءة والطفولة لا نفهم فيها سوى حب الأم، حب الأم الذي لا تدنسه الحياة وإن قست وتلوّنت يظل حب الأم الأبيض رغم حضور الألوان.
لم أعلم أني كبرت لهذا الحد من العمر حين أردت العودة إلى حضن أمي وما استطعت، حينها عرفت أني كبرتُ عمراً.. وكبرتُ وجعاً.. وكبرتُ قهراً.. وكبرتُ احتياجاً.
وما الحياة إلا أوراق نقلبها فتارةً صفحة حزن وتارةً صفحة فرح.. فمهما بدت لنا ومهما قست أو ابتسمت، نحتاج متكأ نرمي عليه أحمالنا سواء كانت محزنة: نريد من يمد لنا يد العون ويشاطرنا أتراحنا في حال ضعفنا وانكسارنا أو كانت أفراحاً يظل الشعور جميلاً حين نرى أن من بجانبنا يشاركنا الفرح.
لكن المؤلم أن بعض المواقف لا نستطيع البوح بها لأحد، فقط.. تقتلنا من الداخل وننزف حد الوجع، ربما نخفي خيبة.. أو نخفي صدمة.. أو نستر خطأً ارتكبناه في حق أنفسنا لا نستطيع البوح به خوفاً من لوم الآخرين.
رغم هذه القسوة والشدة لا نستطيع إخفاء حاجتنا للطفولة يوماً لنُشبِع رغباتنا حباً واحتضاناً من أمهاتنا كالأطفال.
الأطفال لا يمنعهم شيء حين احتياجهم لأحضان أمهاتهم، ربما الحياة خاضعة لتلك البراءة، وربما أنها تدرك أن تلك الطفولة لا تفهم قسوتها لذلك خضعت لها، وها نحن نكبر عمراً.. ونزداد عقلاً.. وتزداد الحياة معنا قسوة، إلا أننا فعلاً لم نفهمها.
الأنقياء الصادقون هم من يتألمون.. هم من يحتاجون تلك المشاعر.. وتعاويذ الحياة ليتجنبوا قسوتها، حين يصدمهم الواقع ويسقط البشر وتبهت أمامهم ألوانها.
نعم.. إن مواقف الحياة هي التي تُغيرنا حتى تترك فينا ركاماً من رماد تئن تحته روحٌ باهتة تشبعت بالألم والحزن، لكنها لم تكبر على الاحتضان وعلى جرعات حب الأم وأحضانها لِتُشعِل ذلك الضوء الذي يكاد ينطفئ.
لكن الحياة قاسية لا تفهمنا رغم محاولاتنا أن نسخّرها لرغباتنا، ورغم ذلك نحن على يقين ورضا أننا لن نأخذ منها إلا بما جرت عليه أقدارنا.
فما أجمل يد القدر حين تربت على أكتافنا لتهدئ من لوعاتنا وروعاتنا ونبتسم رضاءً بالقدر، ونتطلع لأملٍ جديد في طاعة رب البشر.