قصة الاهتمام بالبريات العربية تأتي أولى الإشارات حولها فيما حدث في عام 1824م حينما عثر مجموعة من الفلاحين في منطقة سقارة التابعة لمحافظة الجيزة بمصر على إبريق صغير من الفخار وجدوا بداخله برديتان عربيتان، وصلتا بطريق أو بآخر إلى القنصل الفرنسي في القاهرة (برناردو دروفيتي)، الذي سلمهما بدوره إلى أحد المهتمين بالآثار الإسلامية وهو (سلفستر دي ساسي) الذي اعتنى بها مع برديات أخرى وصلت إليه من القنصل الإنجليزي (هنري ست)، كل هذا تحت عناية الملك لويس الثامن عشر.
وتلا ذلك عثور الفلاحين على لفائف البردى، التي اشتراها الرايخ الألماني (ج ترافرس) بالقاهرة، ولعب دوراً كبيراً في تهريب وسرقة هذه البرديات إلى متحف اللوفر بألمانيا، وتلا هذه العملية ، عمليات أخرى من التهريب للفائف البردى التي عثر عليها في (مدينة أروسنوحي القديمة) وأبوصير الملق عام 1904م، والفشن في عام 1902م، والبهنسا في عام 1896م، وغيرها.وكانت هذه هي البدايات الأولى للاهتمام بالبرديات العربية.
البرديات العربية موروثنا الذي يكشف ويوثق ما كانت عليه الأمة من تقدم وازدهار في مختلف فترات التاريخ؛ وهي الوعاء الذي حفظ لنا العلوم والفنون والآداب ، كما كان لها دورا رئيسيا في التواصل الحضاري، ونقل أحداث التاريخ الإسلامي إلى الأجيال المتعاقبة وتأثير واضح في تطور الحضارة الإنسانية.
إن البرديات تغطي مساحة شاسعة من التاريخ المصري القديم، وكذلك العصور اللاحقة؛ فهناك برديات يونانية ولاتينية وآرامية وعبرية وقبطية وعربية.
أما من يرجع إليهم الفضل في البدء بالدراسات والبحوث المتعلقة بالبرديات فهم بعض المستشرقين؛ منهم: «برنارد مورتز»، الذي كان أول مدير لدار الكتب المصرية عام 1869م وحتى عام 1911م، و»جوزيف كاراباتشيك» و»مرجليوث» و»ألبرت ديتريش» و»كارل فسلي» و»كار هنري بيكر».
أما أشهرهم على الإطلاق فهو العالم النمساوي «أدولف جروهمان»، ومن أبرز أعماله دراساته الموسعة حول البرديات العربية في ستة مجلدات والمحفوظة بدار الكتب المصرية، وقد صدر المجلد الأول منها في 21 من أغسطس 1934 .
وأدولف جروهمان عالم ألماني ولد في عام 1887م، وهو الاسم الأشهر بين المستشرقين الذين عنوا بالدراسات العربية، وينظر إليه دائماً بوصفه رائد دراسات البرديات العربية، عاش أدولف جروهمان متنقلاً بين عدة دول أهمها النمسا والتشيك، ثم مصر قبل أن يختتم حياته في النمسا التي توفي بها في عام 1977م. وقد عمل جروهمان أولاً على مجموعة الأرشيدوق رينر من البرديات العربية بفيينا في العشرينيات من القرن العشرين، ثم انتقل للعمل بجامعة براغ بالتشيك بعد سنوات من سقوط إمبراطورية النمسا مستفيداً من أن هذه الجامعة كانت ضمن جامعات الإمبراطورية التي تستخدم الألمانية في التدريس وعمل فيها أيضاً على دراسة نحو (1000 بردية) عربية حملت إليها من مصر.
من الجدير بالإشارة أن البرديات ليست كالمخطوطات؛ لأن الأخيرة كتبت غالبيتها على الورق «الكاغد» العادي، أما البرديات فقد كتبت على نوع معين من الورق يصنع من نبات البردي، كما أن المخطوطات متعددة الصفحات والأوراق، أما البرديات فهي لفافة قد تكون طويلة أو قصيرة حسب الموضوع المنفذ بها؛ لذلك فإن العمل في البرديات ونشرها يختلف إلى حد كبير عن نشر المخطوطات؛ لأن المخطوطة ربما كانت نسخة أصلية كتبت بيد صاحبها أو بيد تلميذه، أو ربما كتبت وقرئت على مؤلفها، بينما الوثيقة البردية -رغم أنها وثيقة مخطوطة لا تقل قيمة أو أهمية عن قيمة المخطوطة- ربما كتبت بيد كاتب متمرس يعمل في الديوان أو بيد وتوقيع شخص عادي، وربما نفذت البردية بأقلام متعددة، ونلاحظ ذلك في كتابة العقود؛ حيث لوحظ وجود خطوط متعددة ومتنوعة للشهود في نهاية العقد (زواج - بيع - شراء - إيجار - عمل)، كما نلاحظ أحيانا أن كتابة وجه البردية ربما تمت بيد شخص يختلف عمن كتب الظهر مع اختلاف موضوع الكتابة؛ ففي بعض الأحيان يصادف الباحث أن موضوع الوجه عبارة عن عقد بيع مثلا، ثم يلاحظ أن موضوع كتابة الظهر عبارة عن خطاب شخصي يتعلق بأمور مالية وسداد ديون وغيرها.
تتعدد موضوعات نصوص البرديات العربية باعتبارها تغطي تقريبا جميع نواحي الحياة في الدولة الإسلامية؛ فهناك على سبيل المثال المكاتبات الديوانية ورسائل الخلفاء والأمراء للولاة، والخطابات الموجهة للعمال ورجال الشرطة والقضاة، وإيصالات الجزية والخراج، وهناك السِّيَر والمغازي والعقود بشتى أنواعها بين مختلف الأفراد (زواج- بيع- شراء- إيجار- عمل)، والمكاتبات الشخصية للاطمئنان وطلب الحوائج، وكشوف العمال والأجراء والحرفيين والصناع والمزارعين والتجار، وأيضا النصوص الأدبية من شعر ونثر، وبعض أوراق مدون بها آيات من القرآن الكريم وبعض الأحاديث النبوية الشريفة، وغيرها كثير ومتنوع.
أشار الدكتور «جروهمان» إلى بعض النقاط المهمة في عملية تصنيف البرديات العربية بصفة خاصة؛ فأوصى الباحثين عند اختيارهم للنصوص عليهم أن ينتقوا منها أهمها ليكون في مقدمة ما ينشر، وأشار إلى ضرورة إعطاء النصوص الكاملة حظها من العناية والتصنيف والنشر، مع عدم إغفال القطع الصغيرة؛ حيث إنها لا تقل قيمة أو أهمية عن النصوص الكاملة، وغالبا ما تكون للقطعة الصغيرة أهمية قصوى في إظهار تاريخ البردية أو إيضاح حقيقة تاريخية أو حادثة معينة.
ومن ناحية أخرى فإن بعض الباحثين قد أورد في بعض دراساته منهجا ميسرا لعملية تصنيف البرديات العربية، ويمكن تلخيصها على النحو التالي:-
1 - جمع الوثائق المتصلة بالموضوع الواحد؛ كالرسائل الديوانية، ومكاتبات الخلفاء للولاة، والعمال، وغيرها.
2 - رتب الأوامر المؤرخة حسب الوقائع.
3 - نشر الطرز أولا، وذلك لكونها اللصق الأول في درج البردي.
4 - تلي الطرز النصوص القانونية، ثم الوثائق التي تتضمن أعمال الإدارة، ثم النصوص الاقتصادية والخطابات الخاصة.
5 - جمع العقود - وخاصة عقود الزواج- في مجموعة متكاملة؛ وذلك لأن موضوعاتها - وخاصة الافتتاحية والخاتمة- تكاد تتشابه إلى حدٍّ كبير، وجمعها في دراسة واحدة له قيمته العلمية؛ لبيان مقادير الصداق والمهور وغيرها.
6 - حصر الكشوف والسجلات وإيصالات الجزية والخراج لما تحتويه من معلومات وحسابات وأرقام مختلفة، وجمعها في وحدة متكاملة يساعد على عمل مقارنات للأموال المدفوعة أو المتجمعة في فترة معينة.
وانطلاقاً من الشعور بأهمية الوثائق البردية في إلقاء الضوء على جوانب متعددة من الحضارة العربية الإِسلامية، ليس في مصر - الموطن الأصلي لهذه الوثائق - فحسب، بل في التاريخ الإِسلامي بشكل عام، لندرك مدى أهمية المادة التاريخية التي نجدها في هذه الوثائق، وأهميتها في دراسة التاريخ، والحضارة الإِسلامية.
شكل البردي المادة التي استعملت للكتابة في الحضارة المصرية منذ القدم، وقد صنعها المصريون من نبات ينبت أصلاً في أطراف حوض النيل، وهو نبات الحلفا؛ هذا إلى جانب مواد أخرى استخدمت للكتابة كالجلود، والعظم، والفخار - قطع الفخار أو الخزف الصغيرة التي استخدمت للكتابة وهي باللاتينية «أوستراكون». لكن المصريين احتفظوا بتميزهم عن غيرهم باستعمال أوراق البردي. وبقيت هذه المادة المصنوعة من الحلفا محتفظة بأهميتها فترة طويلة من الزمن كمادة أساسية للكتابة والتدوين، سواء على نطاق إدارة الدولة أو الاستعمالات الأخرى في المراسلات، والعلوم في شتى العهود، حتى بعد أن تمكن العرب من التوصل إلى أسرار صناعة الورق من الصينيين في أواخر القرن الثامن الميلادي/ الثاني الهجري.
تبقى لأوراق البردي العربية أهميتها الخاصة لتوضيح الصورة في الفترة الإسلامية الأولى - صدر الإِسلام- والدولة العباسية حتى دولة ابن طولون، إلى جانب أوراق البردي اليونانية والقبطية العائدة إلى فترة صدر الإسلام، لأنها تكشف معاً - أعني البرديات التي وصلت من الفترة العربية الإِسلامية سواء أكانت مكتوبة بالعربية أم اليونانية أم القبطية- عن نواح متعددة للتاريخ، والحضارة الإِسلامية، كالنواحي الاقتصادية والإِدارية، وعلى نطاق أقل النواحي السياسية والاجتماعية. ولكن المدوَّن بالعربية منها عظيم الفائدة بلا شك في مجال دراسة تطور الخط واللغة العربية، أو التدوين وفي مجالات الفقه، والحديث والعلوم الأخرى، وعليه، فإن أوراق البردي بشتى اللغات التي كتبت فيها تكوّن علامة مميزة واضحة في التاريخ الإِسلامي يميز تاريخ مصر عن بقية أمصار الدولة الإِسلامية، لأن تاريخ مصر خاصة، وبشكل أو بآخر التاريخ الإِسلامي في القرنين أو الثلاثة الأولى يمكن أن يكون تاريخاً موثقاً فقط من خلال ما عثر عليه من وثائق البردي المتنوعة.
كما قال أدولف جروهمان، وهو من كبار الذين اشتغلوا بالبرديات، ورأس من عمل على نشر الوثائق البردية العربية فإن هذه الوثائق متشعبة الفائدة فيما يتعلق بالتاريخ والثقافة الإِسلامية وليس بالتاريخ الاقتصادي لمصر فحسب، ففائدتها تمتد إلى دائرة علوم اللغة العربية، والتاريخ السياسي، والإِداري، والثقافي، بمعناه الواسع للفترة الإِسلامية بمصر بشكل عام.
استطاع أدولف جروهمان أن يعبر بشكل صادق وأمين عن مدى الاهتمام العلمي الذي شغف به وظهر بشكل أو بآخر من خلال كتابه الكبير (أوراق البردى العربية)، ذلك الكتاب الذي جاء في ستة مجلدات من الحجم الكبير. وقد دلل جروهمان على شغفه بهذه المسألة من خلال ما عبر عنه في مقدمه الجزء الأول من كتابه، تبين حرصه على البحث عن البرديات بل وصفها بالكنوز خلال فترة إقامته بمصر، فيقول: (... وقد أتيح لي في أثناء إقامتي بمصر سنة 1925م الرجوع إلى كنوز أوراق البردي المحفوظة بدار الكتب المصرية ... )
راعى أدولف جروهمان في نشر كتابه (أوراق البردى العربية) العديد من الأسس، وقد بين ذلك في مقدمة الجزء الأ ول بقوله : (وقد راعيت في نشر هذه النصوص الأسس التي وضعتها في مقالتي المنشورة (Allgme Einfithrung in die Arabischen papyri) ، أما الغرض من نشره لهذا الكتاب، فيقول: (ويرجع الغرض الأول من نشر هذا الكتاب إلى تقديم نصوص يعول على قرائتها، ولم أرى من الصواب أن أنشر النصوص الأصلية بما فيها من الأخطاء..)
قسم جروهمان كتابه الذي صدر منه ستة أجزاء إلى أربعة أقسام، القسم الأول، وهو بعنوان [طُرز]، والقسم الثاني جمع فيه مجموعة من الوثائق الفقهية، والقسم الثالث، احتوى على مجموعة الوثائق والنصوص الإدارية، والقسم الرابع: تناول فيه كشوف وسجلات وحسابات خاصة بالضريبة.
واحتوى المجلد الأول على قسمين (الأول ، الثاني)، الذي استكملت بقيته في المجلد الثاني.
أما القسم الأول: بالنسبة للقسم الأول قسم (الطُرز) اشتمل على (36) قطعة من أوراق البردي، قسمت على أربع عناصر، تضمن العنصر الأول: (18) قطعة عبارة عن قطع أوراق البردى المؤرخة باللغتين العربية واليونانية، وافتتاح جروهمان تلك البداية بنصوص من اللغتين اليونانية والعربية من عهد الوليد بن عبد الملك الأموي (86 -96هـ /705 - 715م) ، بلغ عدد هذه النصوص ثمانية عشر نص، أطلق عليها جروهمان طرز، جمع طراز، وبدأ في عرضها واحدة تلو الأخرى، أما العنصر الثاني: احتوى على (12 قطعة) من أوراق البردي، تضمنت القطع الغير مؤرخة باللغتين العربية واللاتينية (أرقامها: من 19 إلى 30)، وتناول العنصر الثالث: تناول نصوص من طرز عربية مؤرخة، بلغ عددها ثلاثة (أرقامها: من 31 إلى 33)، ثم تلاها بالنصوص العربية غير المؤرخة، بلغ عددها ثلاثة أيضاً (أرقامها: من 34 إلى 36).
القسم الثاني: من الكتاب، جمع فيه جروهمان، الوثائق الفقهية بلغ عددها (35 وثيقة) (أرقامها: من 37 إلى 71)، وقسمها إلى خمس عناصر، هي:
كتاب العتق: واحتوى على وثيقة واحدة من أوراق البردي (رقم 37)، وتلاه بعقود الزواج: وتضمنت هذه العقود نحو (13 وثيقة) (أرقامها: من 38 إلى 50)، ثم وثيقة واحدة فقط عن الميراث، رقم (51) ، ثم وثيقة عقد اتفاق، رقم (52)، وتلا ذلك بوثائق البيوع، بلغ عددها نحو (20 وثيقة)، (أرقامها: من 53 إلى 72)، قسمها إلى جزيئين، الأول: بيع أملاك عقارية، (أرقامها: من 53 إلى 54)، وبيع بيوت مملوكة (أرقامها: من 55 إلى 72)
وتضمن هذا القسم أيضا مجموعة من الوثائق المتعلقة بقطع كبيرة خاصة بالبيوع (أرقامها: من 73 إلى 145)، واحتوت على بيع أجزاء من دار، وبيع نخلة.
كما احتوى هذا القسم على وثائق الكراء، بلغت نحو (16 وثيقة)، (أرقامها: من 77 إلى 92)، احتوت على عدد من الموضوعات ؛ هي: كراء الأرض، تسجيل (توثيق) ، وإقرار بصحة اتفاق خاص بالكراء، خلاصة لسجل من سجلات الكراء، كما تناولت وثائق الكراء، كراء المنازل المسكونة، واستئجار الحوانيت، وأشياء أخرى مثل عقود الكراء، وإيصال إيجار ضيعة.
تضمن القسم الثاني أيضا وثائق عن استخدام العمال (أرقامها: من 96 إلى 97)، بلغت وثائقها (اثنين)، منها وثيقة استخدام عامل لزراعة فول، ووثيقة خادم لمسجد.هذا بالإضافة إلى وثائق تذكر حقوق مدونة، بلغ عددها نحو (15 وثيقة)، تناولت ديون نقدية، واحتوت هذه الديون على وثائق متعلقة بإقرار دين، وديون عينية تدفع قمحًا.
محمد جمعة عبد الهادي موسى - باحث ماجستير في التاريخ