الثقافة العربية تتغلغل في تفاصيل المجتمعات اللاتينية ">
متابعة - عوض مانع القحطاني:
تمكنت الثقافة العربية من التغلغل في تفاصيل حياة مجتمعات دول قارة أمريكا الجنوبية منذ وصول أول مسلم إليها في القرن الـ 15، وبرزت في مختلف نواحي حياتهم، ابتداء من تناول اللغة اليومية التي تضم 500 مفردة عربية، واستخدام فنون العمارة والتصميم والزراعة الأندلسية، وصولاً إلى التقاليد والعروض الفلكلورية المنبثقة عن التراث العربي الإسلامي في بلاد الأندلس.
وأوضحت جل الدراسات التاريخية أن ما يزيد عن ثلاثة ملايين من العرب قد هاجروا إلى قارة أمريكا الجنوبية في نهاية القرن التاسع عشر وبلغ عددهم الآن نحو 40 مليون نسمة، وقيل إن بعض المسلمين «الموريسيكيون» الذين كانوا يعيشون في الأندلس، كانوا ضمن فريق المستكشف الإسباني «كريستوف كولومبس» في رحلته إلى قارة أمريكا الجنوبية في القرن الـ 15، حيث كان يستعين بهم لتمكنهم من علوم الفلك، والملاحة، وصناعة السفن، واستخدم قاموساً أحتوى على كلمات عربية في مذكراته.
وعند العودة إلى قراءة تاريخ الوجود العربي في القارة اللاتينية يعرّج المتصفح على مقولة العالم الأرجنتيني كارلوس مولينا ماسيي الذي عاش خلال الفترة من 1884م - 1964م، وجاء منها القول: في بداية تأسيس العالم اللاتيني نتذكر أن 8 قرون من الوجود العربي المسلم في شبه الجزيرة الإيبرية (التي تقع في الجزء الجنوبي الغربي من قارة أوروبا) قد طبعت سكان شبه الجزيرة بالجنس العربي الذي ميزهم، ووصل منهم إلى بلادنا ما يقرب من 80 %.
وما يعزز قول كارلوس حديث عالم الأجناس في جامعة أوتو الألمانية الدكتور مايو ري الذي بين فيه أن وصول العرب إلى قارة أمريكا الجنوبية سبق زمن كولومبس بنصف قرن على الأقل، مستشهدًا بآثار عثر عليها في كهوف «الباهاما» في خليج المكسيك اشتملت على جماجم تعود لسكان عرب استوطنوا القارة قبل مجيء المستكشف كولومبس. وتميزت شعوب قارة أمريكا الجنوبية بالانفتاح الحضاري والثقافي مع مختلف شعوب العالم، مما أسهم ذلك في زيادة التقارب مع الشعوب التي هاجرت إلى القارة، خاصة من الشعوب العربية والإسلامية، وتجانست معها في الكثير من الثقافات، بل واندمجت فيها إلى ما يمكن وصفه بالذوبان في بعض الأحيان، ليتمخض عن هذه الخطوة عادات مشتركة تمثلت في: بناء الأسرة، والعلاقات الاجتماعية، والمفردات المتداولة، والتراث الشعبي، والزي التقليدي، بحسب قول مدير مركز الملك فهد الثقافي في الأرجنتين الدكتور محمد الحربي.
وأفاد مدير إدارة الثقافة والحوار الحضارات في جامعة الدول العربية الدكتور محمد بن سالم الصوفي في ورقة عمل بعنوان «مستقبل الحوار الثقافي العربي الأمريكي الجنوبي» قدمها خلال أعمال الاجتماع الثالث لوزراء الثقافة العرب ودول أمريكا الجنوبية الذي استضافته المملكة في شهر أبريل عام 2014م: إن المرأة البرازيلية استلهمت طريقة اللبس لدى النساء الأندلسيات، وكيّفت أسلوب حياتها مع أسلوب المرأة في صقلية إبان عصر الأندلس، كما أخذت بطريقة أناقة النساء في ذلك العصر، حتى أصبحت من مظاهر اللبس المتعارف عليها كثيرًا في البرازيل.
وظلت الفنون العربية معلمًا بارزًا في العروض الفلكلورية التي تؤدى بشكل جماعي أو فردي في بعض دول قارة أمريكا الجنوبية حتى وقتنا الحالي، وتتمتع بقيمة رمزية ووطنية مثل: (لاكويكا) في تشيلي، و( لاكوكيا سامبا) في البيرو، و(التانجو) في الأرجنيتين، علاوة على الموشحات المستوحاة من الموشحات الأندلسية. ونقلت اللغة الإسبانية إلى قارة أمريكا الجنوبية حضارة شبه جزيرة الإيْبِيرِيّة التي ساد فيها العرب، لتدخل في مضامين اللهجة العامية اللاتينية العديد من مفردات الثقافة العربية والإسلامية، وأثرت في طريقة نطقها، وبنيتها النحويّة، وتبيّن أن مرونة ترتيب الكلمات في الجملة الإسبانية بعكس كل اللغات ذات الأصل اللاتيني هو محاكاة للجملة العربية.
ويسهم مركز الملك فهد الثقافي في الأرجنتين في خدمة الإسلام والمسلمين بجمهورية الأرجنتين ودول أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي، وتوعية المسلمين بأهمية المشاركة في تنمية المجتمع الذي يعيشون فيه، والسعي لتعريف شعوب المنطقة بالثقافة الإسلامية والعربية.
وفي ذلك السياق، أكد الصوفي أن العلاقات الثقافية التاريخية بين العالم العربي ومجتمعات أمريكا الجنوبية تستمد قيمتها من المشتركات القديمة والإسهام العربي الواضح في تشكيل الهوية والتقاليد في هذه المجتمعات، حتى أن العديد من الشخصيات ذات الأصول العربية استطاعت تقلّد مناصب سياسية وأكاديمية رفيعة في تلك القارة، والكثير منهم حقق نجاحات متعددة في عالم الاقتصاد والأعمال والثقافة والفن. ولكون اللغة هي أساس الحوار الحضاري بين الأمم، فقد حققت اللغة العربية انتشارًا عالميًا جعلت الكثير من دول العالم يفضلونها، فعلى سبيل المثال أظهرت دراسة للمجلس الثقافي البريطاني أن البريطانيين باتوا يفضلون تعلم اللغة العربية على الفرنسية بعد ظهور ست دول ناطقة بالعربية من بين أكبر أسواق التصدير لبلادهم وتدر سنويًا على اقتصادهم أكثر من 12 مليار جنية إسترليني، أي ما يفوق قيمة صادرات بريطانيا إلى إسبانيا، والصين، وإيطاليا. وتبنّت منظمة «اليونسكو» أول مقترح لإقامة الحوار العربي الأمريكي الجنوبي، مشددة على أهمية الثقافتين اللتين جمع بينهما أواصر كثيرة على الرغم من بعد المسافات بينهما، فتم عقد مؤتمر تحضيري في البرتغال عام 1992م جمع العديد من المتخصصين في مجال الدراسات التاريخية لبحث ذلك الموضوع.
وللمملكة العربية السعودية دور بارز في ذلك الجانب، حيث استضافت الاجتماع الثالث لوزراء الثقافة في الدول العربية ودول أمريكا الجنوبية خلال الفترة من 28 إلى 30 إبريل عام 2014م، تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود -رحمه الله- تجسيدًا لرؤية المملكة المعززة لمسيرة التواصل الثقافي والحواري بين العالم العربي والعالم أجمع، وضرورة تعميق المعرفة بالآخر، والاعتراف بالتنوع الثقافي والحضاري.
وأعلنت المملكة العربية السعودية العام الماضي عن إنشاء «بوابةٍ إلكترونيةٍ للثقافةِ العربيّةِ الأمريكيّةِ الجنوبيّةِ» للعنايةِ بنشرِ وتبادلِ الأعمالِ الثقافيّة بين الدولِ العربيّة ودولِ أمريكا الجنوبيّة، على أن يتم التنسيقُ في ذلك مع الأمانةِ العامّةِ في الجامعةِ العربيّةِ وترتيبِ آلياتِ المشروع كاملةً حتَّى يتمَّ إقرارُهُ والعملُ به.
كما سبق للمملكة أن أنشئت «مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدولي لخدمة اللغة العربية» الذي يواصل جهوده برعاية واهتمام من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود -حفظه الله- خدمة للدين وللهوية العربية، واستبشر به المتخصصين في اللغة العربية نظير أهدافه التي تعمل على تعزيز الهوية اللغوية في البلاد العربية، والالتفاتة إلى رغبة العالم الإسلامي ورغبة المنتسبين إلى القطاعات الدبلوماسية والاقتصادية في العالم إلى تعلمها، فضلاً عن مواجهة ضعف الحضور اللغوي لكثير من اللغات العالمية في مقابل سطوة لغة أو اثنتين، وذلك بتأثير العولمة ووسائل التواصل والإعلام. وبالإضافة إلى ذلك، فقد أُعلنت المملكة عن تأسيس «جائزة الملك عبداللَّه بن عبدالعزيز العالمية للحوار الحضاري» وأنشئ في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة -اليونسكو- «برنامج عبداللَّه بن عبدالعزيز العالمي لثقافة الحوار والسلام» كما أنشئ بالرياض «مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز للدراسات الإسلامية المعاصرة وحوار الحضارات» إلى جانب إنشاء «جائزة خادم الحرمين الشريفين عبدالله بن عبدالعزيز العالمية للترجمة» التي تهدف لدعم التواصل الفكري والحوار المعرفي والثقافي بين الأمم. ويعد التأثير العربي في مجتمعات دول أمريكا الجنوبية تأثيراً أصيلاً، تعزّزت معه لغة الحوار بين الجانبين بالدفعة القوية التي وجدها بعد قيام حوار رسمي بين المجموعة العربية والأمريكية الجنوبية المعروف باسم (ASPA) وما نتج عنه من قمم واجتماعات وزارية ولجان جعلت العمل الثقافي من صميم مكونات الحوار.