د. محمد ناصر الحقباني
يعتبر الأستاذ الجامعي المؤهل تاهيلاً عالياً أحد أهم عوامل نجاح أي مؤسسة تعليمية في العالم، وبدونه لن تحقق هذه المؤسسة جودة التعليم. وهذا هو السبب الذي يجعل الجامعات المرموقة في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وغيرهما تفرض شروط صارمة على عملية اختيار المتقدمين للعمل لديها كأساتذة في كلياتها المختلفة. لابد أن نفهم نظام هذه الجامعات في عملية اختيار أساتذة الجامعات.
يسمى من يعين بعد حصوله على درجة الدكتوراه في تخصصات العلوم الإنسانية على مرتبة «أستاذ مساعد Assistant Professor» وبعد نشره البحوث المطلوبة و سجل التدريس المرضي و خدمة مجتمع الجامعة يتم ترقيته لمرتبة «أستاذ مشارك Associate Professor» وفق آلية خاصة بالجامعة، ويقوم بنفس الشيء ليترقى إلى مرتبة «أستاذ Professor» و هي أعلى درجة علمية يمكن أن يحصل عليها الأستاذ الجامعي. يطلق على المرتبتين الأخيرتين «Tenure» في نظام التعليم الجامعي الأمريكي، وهي مرتبة يضمن من خلالها عضو هيئة التدريس الاستمرار في التدريس في الجامعة مدى الحياة، ويبعد عنه شبح الاستغناء عن خدماته في أي وقت ولاي سبب غير عادل، وتمنحه حصانة خاصة ضد من يحاول تقييد حريته الأكاديمية أو التدخل في طريقة تدريسه أو تقيمه للطلاب. لذلك لم يفاجئني أبداً ما قامت به أستاذة علم الأحياء، وخريجة جامعة هارفارد إيمي بيشوب من قتل رئيس قسمها واثنين من أعضاء هيئة التدريس بجامعة الأباما الأمريكية. لم يشفع لهذه الباحثة حصولها على درجة الدكتوراه من أعرق جامعة في العالم وهي جامعة هارفارد و نشرها لعشرات الأبحاث المحكمة علمياً وحصولها على منح بحوث عديدة وتميزها العلمي لترقى إلى مرتبة «أستاذ مشارك»، وهو ما يعني استغناء جامعة ألاباما عن خدماتها بعد سنوات عديدة من التدريس فيها، وهو ما أكدته الجامعة بأن شهر أبريل كان موعد الاستغناء عن خدماتها. في الواقع يضطر الكثير من الأمريكيين من حملة درجة الدكتوراه في تخصصات مثل الفيزياء ومتخرجين من جامعات مرموقة مثل أم أي تي (MIT) إلى البحث عن وظائف أكاديمية في جامعات كندية وأوربية و أسيوية بسبب التنافس الشديد بين الخريجين وعملية الاختيار الصارمة التي تتبعها الجامعات الأمريكية المرموقة.
ولعل ذلك يفتح المجال أمام مؤسسات التعليم العالي لدينا في المملكة لتفكر من جديد في أوضاع الأساتذة والمحاضرين الذين مضى على عملهم سنوات طويلة دون نشر أبحاث علمية وسجل تدريس مرضي ومشاركة فعالة في مجتمع الجامعة و المجتمع بشكل عام. بالتأكيد نحن لا نريد أن يتحول أساتذتنا إلى أشخاص محبطين في عدم الترقية العلمية، ولكننا في المقابل لا نريد أن ننمي الشعور لديهم بأن وظائفهم أشبه بالضمان الاجتماعي في غياب المساءلة الوطنية فيما يتعلق بأدائهم الوظيفي! من المؤسف جداً أن يتواجد في مؤسساتنا العلمية من مضى عليهم في وظائفهم أكثر من 15 سنة وهم على وظيفة «محاضر» بدرجة ماجستير وسجل أكاديمي مهين يخلو من الإنجازات العلمية وتدريس متواضع دون تطبيق النظام بحقهم و الذي يدعو إلى تحويلهم إلى أعمال إدارية لإخفاقهم الأكاديمي. و كذلك من المؤسف أن يمضي الاستاذ المساعد في مرتبته العلمية التي عين فيها بعد حصوله على شهادة الدكتوراه لسنوات طويلة تمتد إلى 15 سنة أو أكثر بسجل أكاديمي مخجل للغاية يخلو من البحوث والكتب العلمية المحكمة والتدريس المقنع وخدمة المجتمع.
وهنا يبرز للسطح سؤال مهم للغاية: هل حقا مؤسساتنا العلمية التي يتواجد فيها مثل هذه العينات تفكر جدياً بالتطوير الأكاديمي والعلمي؟ أشك في ذلك. ربما يقول البعض أن عملية تطوير عضو هيئة التدريس في مجال تخصصه هي من واجبات عضو هيئة التدريس نفسه، وليست من صميم واجبات مؤسسته العلمية. إن هذا القول هو الذي أدى إلى تأخير مسيرة التعليم العالي في المملكة، وجعلها حتى وقت قريب تقدم مخرجات ضعيفة أشبه بمخرجات التعليم العام. إن إهمال المؤسسات العلمية للإنتاج العلمي لأعضاء هيئة التدريس فيها ينمي لديهم الشعور بأن البحث العلمي والتأليف هو أخر أولويات مؤسساتهم مما يشجع البعض منهم على هجر البحث العلمي طالما أنه لا يهدد احتفاظهم بوظائفهم الأكاديمية. ما الفرق إذن بين مدرس في المرحلة الثانوية يعود لبيته بعد نهاية الدوام وعضو هيئة تدريس جامعي لا يبحث و لا ينشر في مجال تخصصه و لا يمثل جامعته و وطنه في المؤتمرات العالمية؟! الحصول على درجة الدكتوراه يجب أن لا يكون غاية وإنما يجب أن يكون وسيلة نحو المزيد من الانتاج العلمي المثمر لمجتمع الجامعة و الوطن الذي انتظره طويلاً ليعود بدرجة الدكتوراه أو الماجستير. إن حصول شخص ما على درجة علمية مثل الدكتوراه و لا يتبعها بإنتاج علمي أصيل يضع علامات استفهام كثيرة أمام الطريقة التي حصل بواسطتها على درجة الدكتوراه!! الأرض الجرداء لا تنتج القمح. وفي هذا السياق أقترح على وزارة التعليم و المؤسسات العلمية الأخرى خارج منظومة وزارة التعليم أن تشترط على من يعيين فيها على مرتبة «أستاذ مساعد» أن يقوم بتقديم مجموعة من البحوث والكتب العلمية المحكمة خلال فترة زمنية أقصاها 5 سنوات من تاريخ تعيينه وأن يقدم ما يثبت مشاركته الفعالة في مجتمع الجامعة و مجتمعه و أن تكون تقارير الطلاب عنه مرضية، و إلا ينهى عقده مع الجامعة ليشغل مكانه من يستحقه من المواطنين السعوديين أو المقيمين المؤهلين. يجب أن لا يكون تعيين حملة الدرجات العلمية مثل الماجستير والدكتوراه حق مكتسب لمجرد أنهم مواطنون سعوديون حصلوا على هذه الألقاب، بل يجب أن يرافقه سجل أكاديمي مميز يعود بالفائدة على المؤسسات العلمية التي سوف تحتضنهم لسنوات طويلة. البقاء يجب أن يكون فقط للاجدر علمياً وأكاديمياً. كذلك أقترح على وزارة التعليم ممثلة في الجامعات أن تعيد النظر في عدد الانتاج العلمي المطلوب للترقية من مرتبة علمية لأرى، و كذلك في نوع وحدات النشر المقبولة ، و الذي بوضعه الحالي يقيد الابداع و الإنتاج العلمي. أرى أن لا يقل عدد الوحدات المطلوبة عن 6 وحدات للترقية لمرتبة أستاذ مشارك و 10 وحدة للترقية لمرتبة أستاذ. الوحدات المطلوبة حالياً قليلة جداً (4 وحدات لمرتبة أستاذ مشارك و 6 وحدات لمرتبة أستاذ) وتشجع عضو هيئة التدريس على الكسل و التسويف، وبالتالي لا تميز بين الباجث الحقيقي و الباحث الذي يرى أن الوقت دائما في مصلحته.