جُبلت الأحياء - قديماً وحديثاً - على كره الموت، والنفور منه، حتى البهائم التي لا عقول لها. كيف لا والصادق المصدوق -صلوات ربي وسلامه عليه - يصف الموت بأنه «هادم اللذات».
وأجمعت الخلائق كلها، إنسها وجنها، عالمها وجاهلها، مؤمنها وكافرها، على ألاّ مفر لحي كائنٍ من كان من الموت، فسبحان من تفرّد بالخلود والبقاء، وقهر عباده بالموت والفناء.
إلا أن الناس قد تحصر الموت على طائفة دون أخرى، وذلك عند رحيل إنسان عابد زاهد، أو فقدان إنسان خلوق محبوب؛ فتقول وبعفوية عبارة، ألفت الآذان سماعها «ما يروح إلا الطيّب»؛ وهذا من هول الصدمة وعلو منزلة الميت، وإنّما الحقيقة هي أن «الكل بيروح، ولا يُفقد إلا الطيب».
وفي الآونة الأخيرة تردد على ألسنة عائلتي، عائلة «آل كلثم»، هذه المقولة:
«ما يروح إلا الطيّب يابو صيعر»، حين فقدت ابنها البار (محمد بن عبدالرحمن)، الذي بذل الجهود الجسام، وقدّم التضحيات العظام من وقته وماله، وعلى حساب راحته وراحة أهل بيته؛ من أجل رفعة شأن عائلته؛ فجزاه الله خيراً عن عائلته فرداً فرداً.
إن فقيدنا الغالي «محمد» مثال حيّ على الإنفاق والعطاء، وأسوة حسنة في الإخلاص والوفاء؛ فقد كان - رحمه الله - خلوقاً سمحاً جواداً شهماً، لا يحمل في صدره لأحدٍ الحقد والكراهية، يعفو عمن أساء إليه، ويصفح عمن أخطأ في حقه، سواء اعتذر أو لم يعتذر.
وأنا - وايم الله - لست هنا بصدد التأبين، أو في معرض الثناء على الميت، ولكن لا يشكر الله من لا يشكر الناس، والخلق شهود الله في أرضه، ولله درّ الحطيئة الشاعر العربي حين قال:
من يفعل الخير لا يُعدم جوازيه
لا يذهب العُرف بين الله والناس
فرحماك ربي بعبدك الضعيف «محمد»، الذي هو الآن بين يديك، ورحماك ربي وأنت أكرم الأكرمين بضيف قد وفد عليك.
وليتعزّ قوم محمد في هذا الخطب الجلل الذي أصابهم بفقد ابنهم محمد بمصيبتهم بفقد محمد - صلى الله عليه وسلم - سائلاً الله بقدرته - جلّت قدرته - أن يخلفه فيهم خيراً، وهذا ليس على الله ببعيد.
أما أنت يا من أحسنت في دنياك العمل - نحسبك كذلك والله حسيبك ولا نزكي على الله أحداً - فلتهنأ في قبرك قرير العين؛ فربك تبارك وتعالى ينفي عن نفسه الشريفة قائلاً، وقوله الحق سبحانه: {إن الله لا يُضيع أجر من أحسن عملاً...}.
فأنت أبا صيعر كنت كما قال الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه وأرضاه -: «خالطوا الناس مخالطةً إذا عشتم حنّوا إليكم، وإذا متم بكوا عليكم».
فكم من قلبٍ حنّ إليك وأنت حي، وكم من عينٍ بكت عليك وأنت ميت.
لعَمرك ما الرزيةُ فقد مالٍ
ولا شاةُ تموت ولا بعيرُ
ولكنّ الرزية فقدُ حرٍّ
يموت بموته خلقٌ كثيرُ
سعيد بن عبدالرحمن آل كلثم - الرياض