د. عصام بن صالح الطبيشي ">
لفت نظري القرار الخاص بتأسيس هيئة توليد الوظائف ومكافحة البطالة. كانت ردة الفعل بالنسبة لي إيجابية لمجرد استخدام كلمة «توليد»؛ فتوليد الشيء يعني استحداثه وإنتاجه وابتداعه. فبدأت أتخيل مجالات التوليد وطرقها, مستحضراً في الوقت نفسه أسباب قصور المبادرات السابقة في حل مشكلة البطالة. يمكننا القول إن المبادرات السابقة لم تتبنَّ فكرة التوليد، إنما عمدت إلى إيجاد اللوائح والأنظمة، إما للتضييق قدر الإمكان على الموظف الأجنبي، وخصوصاً في الأعمال متدنية المهارة؛ «ليحل» مكانه المواطن, أو لتسهم في التوظيف الوهمي؛ لذلك سوف أعتبر أن توصيف الهيئة الجديدة بأنها هيئة توليد ينم عن إدراك ووعي المسؤول بضرورة توجيه البوصلة نحو حلول مبتكرة أكثر فاعلية.
بما أن دراستي التخصصية أساساً في الهندسة الكهربائية فسوف أتحدث عن توليد الكهرباء كمثال لإبراز مفهوم التوليد. ولك أن تتخيل لو عشت يوماً بدون كهرباء! بشكل مبسط، فإن أهم طريقة لتوليد الكهرباء مبنية على توفر عنصرين مهمين: مجال مغناطيسي ودوران؛ لذلك نجد أن عملية الدوران تم حلها باستخدام طرق عدة: دوران التوربينات في مصاب الأنهار كالسد العالي في مصر أو شلالات نياقرا في كندا، أو باستخدام توربينات الغاز كالمستخدمة هنا في المملكة, أو باستخدام المراوح الهوائية. والسؤال البسيط يأتي تباعاً: لو أقر مهندس استخدام توربينات الماء في إنتاج الكهرباء في مدينة الرياض فهل عملية التوليد ستكون ناجحة؟! بالتأكيد سوف تكون فاشلة بكل المقاييس لانعدام مصاب الأنهار. في الجهة المقابلة، لو تم استخدام توربينات الغاز في توليد الكهرباء بجانب السد العالي فهل يمكننا القول إن التوليد ناجح؟ في هذه الحالة سوف يتم توليد الكهرباء ولكن بتكاليف أكثر؛ وبالتالي سوف نعتبر أن التجربة محدودة الفائدة. إننا هنا نبرز أهمية دراسة الحلول واختيار الأكثر كفاءة بأقل التكاليف. إذن، فبمعرفة البيئة المحيطة والإمكانات المتوافرة نستطيع تبنِّي توليد مناسب.
بالنسق نفسه، ومن خلال المثال السابق سوف نطرح تساؤلنا المهم: كيف لنا أن نولد الوظائف؟ مستحضرين شروطاً مهمة: جودة المنتج والفاعلية والكفاءة. في بداية الأمر نحتاج إلى معرفة مكامن القوة التي نمتلكها. سوف نكتشف أنها المصادر الطبيعية، كالنفط والمعادن التي تقابل مثلاً المجال المغناطيسي في توليد الكهرباء, إضافة للمال، الذي يمثل الدوران؛ وبالتالي ماذا يمكننا أن نفعل بهذين العنصرين: المصادر الطبيعية والمال؟ الجواب بشكل مباشر هو الصناعة، ثم الصناعة، وبعدهما الصناعة! إن المملكة أدركت بالفعل أهمية الصناعة؛ فأنشأت مدناً صناعية، يُشار لها بالبنان، كمصانع البتروكيماويات في الجبيل وينبع، التي حققت من خلالها نجاحات عدة، من أهمها استحواذ المملكة على 7 % تقريباً من الإنتاج العالمي، إضافة إلى توليد آلاف الوظائف «الحقيقية». ولكن حينما نمعن النظر في تلك الصناعة نجد أنها تواجه حالياً تحديات عدة، أهمها تقلبات أسعار النفط، والتنافس المحموم مع شركات عالمية، والأنظمة الجمركية والحمائية، واحتمالية إلغاء الدعم الحكومي. كل هذا سوف يؤثر سلباً على الإيرادات؛ وبالتالي سوف يُضعِف من «دوران» المال الذي بدوره يضغط على توليد الوظائف. إن إدراكنا لتلك التحديات وعدم إغفالنا لنقطة مهمة، هي أن النفط طاقة غير متجددة، إضافة لشرط الفاعلية والكفاءة، يحتّم علينا إيجاد حلول أخرى.
إن الملاءة المالية للمملكة تمكّنها من الاستحواذ المباشر على شركات، أو الدخول في شراكة مع شركات لبناء مصانع «تحويلية» محلية، تُستخَدم فيها المنتجات البتروكيماوية أو المواد الأولية لتصنيع منتجات ضرورية ذات بُعد اقتصادي ملموس. إن دخول المملكة بشكل قوي في الصناعات التحويلية سوف يكون له فوائد عديدة، من أهمها: توليد وظائف جديدة، إما بشكل مباشر لتلك المصانع، أو بشكل غير مباشر في مجالات التسويق والدعم والمساندة لتلك المصانع من قِبل المنشآت الصغيرة والمتوسطة، ورفع المستوى الفكري للمجتمع، وزيادة فاعلية وكفاءة استهلاك النفط والمواد الأولية، وتقليل الأثر من تقلبات أسعار النفط والمنتجات البتروكيماوية، وتجنب دفع مئات المليارات سنوياً لاستيراد منتجات تدعم اقتصادات الدول الأخرى.
إن زيادة الاهتمام والتركيز في تطوير ودعم الصناعات التحويلية باتت قضية ملحة؛ تستلزم وضعها ضمن الخطط الاستراتيجية للمملكة؛ لما لها من أعظم الأثر، ليس فقط في المساعدة في اجتثاث جذور البطالة، بل حتى في النمو الاقتصادي، وتقليل الاعتماد على الإيرادات النفطية.
جامعة الملك سعود - كلية الهندسة