رمضان جريدي العنزي ">
أجمل لحظات العمر هي تلك التي أقضيها في الصحراء، بعيداً عن صخب المدينة وزحامها وزعاقها ونزقها الممل، هذه الصحراء تمنحني متعة حقيقية، وأنسا روحيا، وبهجة قلب بلا أصباغ ولا مساحيق ولا ألوان، صحراء مفعمة بالصمت والهدوء والحكمة الخالدة، صحراء تمتلئ جلالاً وكبرياء وهيبة ووقاراً وزهداً وحكمة، وتفتح لي آفاقاً لا حدود لها في التأمل والتدبر والغوص في معاني الأشياء، ومخلوقات الأرض والسماء، الصحراء عكس المدينة الضاجة بالزحام وضجيج الأسواق والناس والسيارات والأدخنة، يحلو لي بين فينة وأخرى الخروج في فج الصحراء العميق والتمتع في دهشتها الخلابة، ضارباً بخطاي رملها البهي، لتكنس من نفسي السأم والحزن والقلق وصراعات الحياة، بعيدا عن علو الأسوار، والممرات الضيقة، والغرف المقفلة، وتغمر وجداني بمخيلات طافحة بالبشر، وتطوف بالذهن أخيلة قديمة عن أشياء غمرتها مياه الزمن وأغرقتها إلى الأبد، مسترجعاً بعضاً من ذكرياتها العتيقة، التي تجبرني أن أعود طفلاً يحجل على قدم واحدة فوق رملها الواسع وفضائها الفسيح، متحدثاً إلى نفسي، محاوراً لها بصوت عال كما أرغب وأود وأشتهي، بعيداً عن التعقيد والتكلف والادعاء، راغباً أن أعود إلى مراجل النقاء والبراءة، متحرراً من كل المظاهر الباهتة التي تملأ حياتنا وسلوكنا وتعاملنا وخلقنا، في الصحراء يكبر حجم التدبر والتفكر واسترجاع الذي كان، حتى أن المشاحنات الصغيرة التي كانت تحدث بين الناس تبدو لي قزمة وضئيلة مقارنة مع الصراعات الجهنمية والمشاحنات الكبيرة الحاصلة الآن، والتي أتبين سخفها وضآلتها بالمقارنة مع الجنون الكبير والصراع المخيف والهرج والمرج الذي لا حدود لهما، بين فينة وأخرى أخرج من المدينة لألوذ بالصحراء، أهرب من أعواد الخشب وخرسانات الإسمنت وأصابع الكبريت وغبار المصانع ورماد العاطفة، لأسامر حبات الرمل والنجوم وضوء القمر وبقايا النبت الصغير، ورقة الهواء العليل، مستنسخاً من الماضي التليد صوراً حية، لكي تحيا نفسي من جديد، على وقع سكينة تنساب إلى روحي من واقع دفين.
في الصحراء أنهل من سرمدية الليل، وأغتسل ببهيمه، مرهف صوت الريح فيها حين تهب هادئة، كونها تبللني بالوسن، وتدثرني بالخدر، وتبعث في روحي العافية، في المدينة القمر يفقد عذوبته، لكنه في الصحراء يزداد رقة وعذوبة، في عمق الصحراء النائية عن المدينة أتأمل بشكل كثيف، كيف كنا نخاف من الذئاب ومن الضباع نخاف، الآن نمد أقدامنا في الصحراء ونلتحف السماء ولا نخاف، تغيرت أحوالنا، طفنا على السطح، ووجوهنا صار لها سناء، وأجسادنا مكتزة بالعافية، كنا معفرين بالتراب نرنو بحذر، ونخطو بوجل، الآن صار لنا سجاد أحمر، وأصص زهور، ولوحات ملونة، والكراسي التي كانت من الصاج، صارت مطعمة بالمينا، وبيوتنا صارت فاخرة، كنا بلا سناء، ولا رؤى، وحلمنا جمر يقوده لهب، تحفنا الشمس والخوف والشهب، وكم أدار لنا الجدب ظهره على مدار حقب، نغفو على وقع الغزاة ضحى، وليلنا يصحو على وقع الغزاة فنرتعب، حياتنا قصب، وصوت الطير عندنا مثل صوت البوم بلا طرب، مع الغربان والضبعان والذئاب نعيش بشكل كبير وريب، حتى أحلامنا الصغيرة في حضرة الغزاة منا تستلب، جراحنا سحب تتلوها سحب، ونومنا وسن، في الصحراء أتنفس بها رياح الشتات والرحيل والعوز وحادي الركب الضئيل، وكآبة الحياة التي كانت لدرجة تصل حدتها إلى رؤية الظلام في وضح النهار، خيالنا كان لا يسد حتى الفراغات الصغيرة، وطموحنا ليس غزيراً، وحدها الأسقام تسد الوجوه وتخترق الأجساد، أنهكنا حينها التعب، وتضخم الوهن في أرواحنا، مسافرين كنا من رمل إلى رمل، والدموع بأحداقنا تلوح، ها أنذا ألملم بعضي على بعضي، أتلفع بعباءة الحاضر، وقد فرت كل خيوط البرد مني، وشغل محلها الدفء، أرشف حسوة من القهوة، وأطلق بصري عبر بوابة المخيم، فأجد الفضاء كبيراً، أنفض رأسي، أفك شرك احتدام الأفكار، فينزاح عني هلام البعثرة، وتعود مضخة الدم تبهج الحياة في أعضائي، حينما أرى حاضرنا بهياً بكل تفاصيل البهاء، والنوافذ كلها مفتوحة لرؤية المطر، والوجع زال، وغفوة الحلم تكبر، والحجر ما عاد حجراً، ولا الرماد رماد، صارت البيوت بيوتا، والضوء ضوء، والشمس شمس، والبستان بستان، والماء صار ماء وعافية، والمرايا صارت كلها عاكسة، والقناديل صارت تبهج وجه المدينة، والبيد جنان، أي سعد نحن فيه، نرتدي ثوب الشموخ، في عليات التحدي.