التّوسّع في الاقتراض المالي للمفاخرة والمباهاة همّ بالليل وذلّ بالنهار ">
الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
يتساهل بعضهم في التوسع بالاقتراض المالي حتى يغرق بالديون دون حاجة أصلاً، وإنما من باب الكماليات فتجد بعضهم يقترض من أجل السفر، ويغيّرون سيارتهم بالدّيْن لورود فئة جديدة، أو يضعون زواجاتهم في أماكن غالية الثمن من أجل المباهاة.. وهكذا حتى يغرقوا في الديون من حيث لايشعرون، ولا يستطيعون الوفاء والسداد.. وبعدها لا يتورّعون عن الكذب، وإخلاف الوعد واختلاق الأعذار. عدد من الخبراء والمتخصّصين ناقشوا المشكلة، وقدّموا رؤيتهم وفق المنظور الشرعي للمعالجة لقضية بدأت تتفشّى في المجتمع، وآثارها على الفرد وأسرته؟
مباهاة ومفاخرة
بدايةً يذكر الدكتور عبدالله بن عبيد النفيعي أستاذ القانون المشارك بجامعة الطائف أن أسباب هذه القضية تعود إلى أمور متعددة كالإسراف والتبذير، وغياب الترشيد في الاستهلاك، وعدم إجادة حسن التصرف في إدارة الأملاك، وربط مفهوم ومصطلح السعادة بالمال، والبحث عن الثراء السريع عند بعضهم من خلال التهور في الدخول في بعض المشاريع دون تخطيط سليم، أو دراسة علمية، أو سؤال متخصص يُبيّن جدوى تلك المشاريع.
وكذلك إفرازات المجتمع القائمة على المظاهر والمباهاة والمفاخرة وتقليد الآخرين في المسكن والمركب، والملبس والمأكل، والبذخ في الكماليات. والتي تصل في بعض الحالات إلى هوس مجتمعي مبني على تنافس غير محمود من أجل الشهرة أو السمعة في نظر هؤلاء، حيث تؤدّي هذه الأمور إلى أن يبحث الشخص عن الاقتراض عن طريق البنوك والمصارف أو الاستدانة بأي وسيلة.
وكشف الدكتور عبدالله النفيعي أن لهذه الظاهرة آثارا اجتماعية ونفسية واقتصادية تلحق بالفرد والأسرة جراء تراكم الديون فالدين كما يقال: همّ بالليل وذلّ بالنهار.
فيجعل صاحبه في همٍ وانشغال فكر وتشتّت، وانعزال عن المجتمع وتغيّر في السلوك، وتكثر المشاكل الأسرية، وتزيد الأعباء المالية، ويحصل التدهور في جميع الأمور وينعكس هذا الأمر سلباً على الأبناء ويخلق جيلاً يمتطي هذه المهنة ويتدرّب على الكذب وعدم الالتزام بالوعود وإنكار الحق والعدالة، ويصبح مرضاً متفشياً في الأجيال جيلاً بعد جيل، وأنّه ينبغي معالجة هذه القضية وتوعية المجتمع بأكمله بخطورتها ونتائجها السلبية من خلال وسائل الإعلام والمؤسسات التعليمية والاقتصادية والمجتمعية، ووضع آلية نظامية تقنن عمليات القروض من المصارف والمؤسسات المالية، تشرف عليها مؤسسة النقد السعودي للحد من هذه الظاهرة، وأن تقوم عملية القرض أو الاستدانة من قبل الأشخاص بالطرق الشرعية والنظامية في توثيق الديون بالكتابة والشهادة أو بطريق الرهن حتى تحفظ الحقوق. وأن يحافظ الدائن على حقه بكل وسيلة مشروعة.
ولقد عالج النظام السعودي هذه القضية - بالإضافة لقواعد الشريعة ومبادئها العامة المتمثّلة في قول المصطفى- صلى الله عليه وسلم-: «مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته»، وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، وغيرها من القواعد المحافظة على الضمان العام - في نظام التنفيذ الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/53) وتاريخ 13-8-1433هـ، والذي اشتمل في بابه الخامس والأخير عن دعوى الإعسار، والحبس التنفيذي، والعقوبات التي يستحقها المماطل، والعقوبات التي يجوز إيقاعها على من تسبب في تعطيل تنفيذ الأحكام، والأوامر الصادرة من قضاء التنفيذ.
مساعدة الآخرين
ويقول الشيخ رضوان بن عبدالكريم المشيقح المحامي والمستشار الشرعي بمدينة بريدة أن الدّين الإسلامي يحث على الإحسان ومساعدة الآخرين، كما يرى خاصة لمن أفاض الله عليه مالاً، وأنّ الإقراض سمة من سمات هذا الدّين، وأن إقراض الأخ لأخيه قد يكون فيه تفريج كربة، وأن الأجر والجزاء فيمن فرّج كربة عن أخيه المسلم من الله عظيم، ومع هذا لابد من زرع الثقة لدى الآخرين من الوفاء بالوعد، والوفاء بالعهد، حيث إن احترام العقود شعيرة من شعائر الدين والخلق النبيل، ومن أخلاق أهل المروءة والدين.
وينتقد الشيخ المشيقح بعض الممارسات الخاطئة من بعض الناس التي تبدأ من نقض العهود، وما يترتّب عليها من الخسران، واللعنة وسوء الدار، بل إن هناك بعض من يمارس الغدر والمماطلة، ونقض العهود على أنها نوع من الحنكة والدهاء والألمعية والشطارة، كما تجد جاهلاً يحسب أن الدِّين علاقة بين العبد وربّه فحسب، فتراه يقيم الفرائض وربّما أتبعها النوافل لكنّه لا يقيم وزناً للتعامل مع عباد الله، لا يرعى حقوقهم، ولا يؤدّي لهم واجباتهم، يعتدي على حق هذا، ويماطل في حق آخر، ويشتم ثالثاً ويصرف رابعاً، فالحلال ما حلّ بيده، والحرام عنده ما عجز عن الحصول عليه ذلك صنف حكم عليهم بالإفلاس، وسماهم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم - بالمفلسين كما جاء في حديث «أتدرون من المفلس؟».
إن من الأمور الضارة تساهل كثير من الناس في الديون والقروض أياً كانت هذه ما دامت مباحة، فتراهم يتسامحون في الاستدانة والاقتراض ويتساهلون في الأداء والوفاء، وقد جاءت نصوص الشريعة محذّرة من التلاعب والتهاون بحقوق الغير، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله».
وعن صهيب الخير عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «أيّما رجلٍ تَدَيّنَ ديناً وهو مجمِع أن لا يُوَفّيه إيّاه لقي الله سارقاً».. في حين أنّ خلو الذّمّة من الدّين سبب من أسباب دخول الجنة، فقد ورد عن ثوبان عن رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنّه قال: «من فارقت الروح الجسد وهو بريء من ثلاث دخل الجنة من الكبر والغلول والدَّيْن»، ومن أين للإنسان الوفاء إذا فارقت الروح الجسد، وهو مصر على المماطلة وحبس حقوق الآخرين، وهل يرضى أن يكون القضاء من الحسنات في وقتٍ هو أشد ما يكون حاجة إليها؟ ويكفي في عظيم الدّين أن رسول الهدى والرحمة ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يقول: «إذا توفي المؤمن في عهد رسول الله وعليه الدين فيسأل هل ترك لدينه من قضاء؟ فإن قالوا: نعم، صلى عليه، وإن قالوا: لا، قال: صلوا على صاحبكم».
تحوّلات مجتمعيّة
ويشير الدكتور فيصل بن بجاد السبيعي رئيس قسم التربية وعلم النفس بكلية التربية والآداب بتربة، أن المجتمع الجديد تقوم بداياته على البساطة في العيش بعيداً عن حياة التعقيد التي ساهم التحول الاجتماعي الذي تعيشه المجتمعات في الوقت الحالي في ايجاده، والمجتمع السعودي من ضمن مجتمعات العالم التي طالها هذا التحول، حيث ساهم اكتشاف النفط في تحولٍ ونقلةٍ للمجتمع السعودي طال الحياة الاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية، والأسرية، مما أدى بالتالي إلى تحسن الحياة المعيشية للمواطن السعودي.
كما أن دخول العمالة المنزلية من سائقين وخدم ساهم في تخلّي بعض أفراد الأسرة عن مهامّهم الرئيسة، وأُوكِلَت لتلك العمالة؛ مما أثر في ثقافة أفراد الأسرة وغَيّر في بعض مفاهيم الثقافة الأصيلة للمجتمع.
وبعد ذلك نشأت أجيال جديدة في ظل التحوّلات المجتمعيّة الجديدة وعايشت رفاهية الحياة منذ نعومة أظفارها. ثم بعد ذلك بدأت حياة الكماليات غير الضرورية تفرضها طبيعة رفاهية ورغد العيش حتى أصبحت مطلباً ضرورياً في نظر بعض أفراد المجتمع.
ثم تشكلت أسرٌ جديدة متنعّمة بحياة الرفاهية منذ نشأتها، وبدأت بعض المفاهيم الثقافية الأصيلة للمجتمع السعودي الإسلامي يطرأ عليها بعض التبدّل عند بعض الأسر: كمفهوم الإنفاق والكرم والمعيشة والمأكل والمشرب والملبس والمركب والمسكن والترويح. كل ذلك نتيجة خلل في سياسة صرف المال وكيفيّة التعامل معه، وطغيان جانب الكمال على جانب الضرورة، وغياب جانب تقدير حجم الاحتياجات لقائد الأسرة. وهذا بالتالي فرض حياة التنعم والرفاهية والكمالية على بعض أفراد الأسرة، وأصبحوا يسعون لتلك الحياة دون تقدير حجم عواقب ذلك، مما أدّى ذلك لظهور برامج التمويل المالي؛ لإيجاد حلول لما قد يواجه الأفراد من مشاريع حياتية كالسيارة أو الزواج أو تأمين سكن أو تأثيث ونحو ذلك.
ثم تطور الطلب على الحلول المالية حتى أصبحت حلاً لما قد يواجه بعض الأفراد من التزامات مالية قليلة أو كثيرة، وليس هناك إحساس أو تقدير لحجم الديون والالتزامات المالية المتراكمة وعواقبها وآثارها.فبدأت مشكلة الاستغراق في الديون دون مبالاة أو استشعار لآثارها المنعكسة على الأسرة والمجتمع والوطن.
آثار عكسيّة
ويضيف د. السبيعي أنّه نتج عن ذلك جملة من الآثار المنعكسة على الأسرة والمجتمع الوطن:
أولاً: عدم استقرار الأسرة نفسيا واجتماعيا واقتصاديا وعمليا، حيث قد يقود ذلك إلى عدم رضا الأسرة عن حياتها القائمة على الإفلاس، وتشتت أفرادها، وغياب قائد الأسرة بعد تراكم الديون عليه بايداعه السجن، أو تكليف أفراد مجتمعه ما لا يطيقون من تحمل ما تحمله، هذا إن كان هناك حلول مجتمعية لذلك، وتبدو المشكلة تلو المشكلة بسبب تلك الديون.
ثانياً: عدم عيش الأسرة الحياة الكريمة التي تضمن لهم تلبية احتياجاتهم الضرورية، ومن ثم العيش على عطايا الجمعيات الخيرية أو المحسنين.
ثالثاً: قد يفقد أفراد الأسرة التعليم الجيد الذي هو أحد الحلول لحياة ترفل بالخير، حيث هناك علاقة بين العامل الاقتصادي والتعليم، فكلما كان مستوى التعليم عالياً ينعكس بالتالي على جودة اقتصاد وارتفاع دخل الأسرة.
رابعاً:ومن آثار تراكم الديون والمطالبة بالوفاء بها هروب الشخص أو تهربه من عمله سواء بالسجن أو مطالبة الآخرين له والتضييق عليه، وبذلك يفقد الوطن عضواً فاعلاً ومساهماً في بنائه، ويصبح أحد معاول الهدم والعناء.
ومن أهم الأسباب التي تقود إلى الغرق في وحول الديون وتراكمها:
أولاً: عدم التخطيط الجيد القائم على الوعي بظروف العصر الذي نعيشه، بالإضافة إلى الخلط بين الأمور الضرورية والكمالية.
ثانياً: غياب مبدأ فقه وترتيب الأولويات يقود للانجراف تجاه وحول تراكم الديون دون حاجة لها.
ثانياً: كما أن هوس الموضة والتجديد، ومجاراة تطورالعصر قد تغري بعضهم؛ فيقدم على التسهيلات المقدمة كبرامج استبدال القديم بالجديد ونحو ذلك فتبدأ مرحلة من مراحل الإغراق.
ثالثاً: ومما ساهم في ذلك بنسبة عالية تعدد ممولي الحلول المالية من غير البنوك كمراكز التقسيط الجديدة، والتي تجدها في كل حي تقدم حلول تمويلية فورية للمستفيد، فيقدم عليها دون تقدير لاحتياجه لها.
رابعاً: كما تمثل مقارنة حياة الآخرين، ومحاولة مجاراتهم من أهم الأسباب التي تقود إلى تكليف الأسر ما لا تطيق مستقبلا، ثم تتفاجأ مستقبلا بالتزامات لا تستطيع الوفاء بها، وكل ذلك من جراء مجاراة الآخرين ممن أوسع الله تعالى عليهم في العيش والرزق.
ومما يساهم في عدم الوقوع في مستنقعات الديون ما يلي:
أولاً: التوازن في حياة الأسرة بين دخل الأسرة ومتطلبات الحياة، ومحاولة التخطيط الجيد القائم على الوعي الكامل المدرك لخطورة الديون وعدم الانسياق للتسهيلات التي تقدمها الجهات الممولة وعواقب ذلك مستقبلا.
ثانياً: القناعة التامة والرضا بما قسمه الله تعالى من ظروف حياتية ومحاولة التكيف مع تلك الظروف.
ثالثاً:عدم الانسياق خلف الكماليات التي يمكن الاستغناء عنها أو ايجاد البديل الذي يحقق الغرض.
رابعاً: تمثل ثقافة الادخار جانب أمان للأسرة إذا تم تفعيله، وذلك بتخصيص جزء مخصص من دخل الأسرة شهرياً؛ ليكون رصيداً مستقبلياً لحدوث أي مشكلة مالية.
خامساً: كما أن الاستشارة مهمة جداً من ذوي الاختصاص والخبرة قبل الإقدام على الاقتراض؛ لتقديم المشورة الأصوب قبل الاقتراض.