السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
أُقدر مثل غيري الدور الذي تقدمه هذه الصفحة الرائعة من صحيفتنا الرائدة التي تعكس فيه هموم المجتمع وتفاعلاته، لكي تخلق من هذا التفاعل رسالة تدفع بها الإيجابية أو تعالج بها السلبية، وهو نهج دون شك يحسب لها ويُسجل بمداد من نور لرسالة الجزيرة الإعلامية، وكونها منارة إشعاع وتوجيه ورسالة تثقيف وعلم يُقدّرها جميع المرتبطين بها من أكثر من خمسة عقود، وما زالت هذه الصفحة ينتظرها جميع القراء لمعرفة نبض المواطنين من خلالها وكذلك تفاعل المسؤولين.
ولقد استمعت كغيري في صباح الخميس الماضي الموافق 9 / 1 /1437هـ لبرنامج (اللهم بك أصبحنا) ولفقرة جديدة بمسمى (لقاء الرواد) واستُهل اللقاء مع سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ مفتي عام المملكة العربية السعودية، وكان في هذا اللقاء دروس كثيرة بالرغم من أن مدته لم تتجاوز 20 دقيقة، حيث أظهر اللقاء اهتمام سماحته بالإعلام وتعاونه معه وتخصيص الجزء الأكبر من وقته للتواصل مع العالم من خلاله، ورؤيته - حفظه الله - حول ضرورة انتشار إعلامنا بجميع قنواته، لأنه الإعلام المنضبط والموثوق والذي لا تقود أهله والمهتمون به المصالح، وتطلعه إلى أن يكون كما هو العهد به منارة توجيه وتثقيف ويساهم بجهده الكامل في تصحيح الأذهان ومساعدة الأسر في تربية الأبناء من خلال ما ينشره من معلومات صحيحة وتغريدات صادقة ورسائل توعوية هادفة، ثم أشار سماحته إلى علاقته الرائعة مع ولاة الأمر وقربه منهم وتزكيته لهم بحرصهم على هذا الوطن ومصالح المواطنين ورغبتهم في تسخير كافة الإمكانيات لرفاهية المواطن مع الحكمة وبُعد النظر اللذين يتميز بهما حكام هذه البلاد وقربهم من شعوبهم وحرصهم على ما ينفع الإسلام والمسلمين، مع ذكر بعض المواقف المؤثرة مع بعضه، ولو كان في اللقاء مزيد وقت لأوضح العديد من المواقف الإنسانية لهم، ثم أشار سماحته إلى قيمة العلماء الذين درس عليهم وفضلهم وعلاقته الرائعة بسماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - الطويلة واستفادته منه وثنائه عليه وإعجابه به وغيره من المشايخ في موقف يظهر فيه عظمة أخلاق العلماء وتواضعهم والوفاء المتوقع منهم، وهذه ليس قصة الوفاء الوحيدة التي استفدناها من هذا اللقاء القصير، لأن سماحته إشارة إلى علاقة تجاوزت الأربعة عقود مع الشيخ عبد العزيز المقيرن وصداقته له واستماعه إلى قراءاته وملازمته له بصورة تمثّل الأخوة الصادقة التي نحتاج لنماذج كثيرة منها، ثم تعاهده - حفظه الله - بزيارة الشيخ المقيرن مرتين شهرياً وحتى اليوم، منذ أن أُقعد للسلام عليه بالرغم من المشاغل العديدة لسماحته، متّعه الله بالصحة والعافية، وأطال في عمره على طاعته وأحسن له الختام، والدرس الذي لا يقل عما سبق الذي استفدناه هو البركة التي وضعها الله سبحانه وتعالى في وقته، حتى إنه لا يرفض دعوة ولا يقطع زيارة لعزاء أو لصلة رحم ويتحامل على نفسه في ذلك، وهو المولود في عام 1361 للهجرة، وقد مضى من عمره الميد - بإذن الله - سبعة عقود ونصف العقد، وربما أن الله متّعه بالصحة والعافية لهذه الأسباب وغيرها، وأشار في حديثه - حفظه الله تعالى - إلى علاقته مع فقدان البصر، ومتى كان ذلك والمحاولات التي بذلت من أجل إعادته ولو للقليل منه، وجهود الملك خالد رحمة الله عليه في ذلك، ولكن هذا لم يكن عائقاً له في استكمال هذا المشوار الطويل الذي قد يثقل على المبصر، فكيف بمن فقدَ بصره بالكامل، وهو لم يتجاوز العشرين عاماً والذي قاده إلى الذهاب لمسافات طويلة على قدميه من أجل طلب العلم حتى بلغ هذا الشأن العظيم في الدين ويكرر رضاه بما كتبه الله عليه، وأنه لا يشك في الخير له، بل ربما كان سبباً في الإصرار على طلب العلم وارتفاع الهمة لديه لتحصيل المزيد، وإن شق عليه وهذه قمة الاحتساب واليقين بما عند الله سبحانه وتعالى من الأجر، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله قال إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوّضته منهما الجنة.. يريد عينيه).
وكان حديث سماحته عفوياً وقريباً للنفس، ولا يكاد المرء المستمع له أن يفوته شيء منه، فهو حديث من القلب إلى القلب حتى كأنه حفظه من سمعه عن ظهر قلب لصدق بيانه في حميمية لقائه بالوفد الإذاعي الذي نكن له كل التقدير على جهودهم الصادقة، ونفعهم الكبير الذي ننتظره كل صباح لنستفيد منهم ونبتسم معهم، وكان حديث سماحته صادقاً ومؤثراً، بل إن المتعمّق فيه تذرف دمعاته من أجل تقدير تلك المواقف التي كان يذكرها في أثناء الحديث الذي يستحق وقتاً أطول، وكانت أشد المواقف تأثيراً في المستمع هي علاقته بوالديه، وكيف أن سماحته فقد والده وهو في السابعة من عمره، ولا يذكر شيئاً من علاقته به، لأنه صغير كما أن نظره في ذلك الوقت كان ضعيفاً، فهو لم يكن يرى إلا بعين واحدة على ضعفها، أما علاقته بوالدته - رحمها الله - التي توفيت قبل أشهر في عام 1436 للهجرة، فإنها شيء آخر لأنها كانت خائفة عليه وبارة به ومعتنية أشد العناية بهذا الوليد الذي لا تعلم كيف سيكون مستقبله، ومن سيرعاه، وكيف ستكون حياته؟.. فعندما قُررت له عملية في عينه في مستشفى الشميسي، وكان يرقد معه في الغرفة التي أُرقد فيها عددٌ من المرضى، ومن عناية والدته - رحمها الله - به كانت تجلس وتنام في الممر الخارجي، لأنها تخشى أن يحتاج إليها وهي لا تستطيع مرافقته والمبيت بجانبه في ظل وجود عدد من المرضى معه وكل حواسها مقيّدة لسماع صوته، حتى استقل بغرفة خاصة ولازمته حتى خرج منها، وتقول: للطبيب: خذ إحدى عيناي وازرعها لابني، وتوفيت وهي راضية عنه وهو خادمها المخلص.
ولم يخل هذه اللقاء من الطرائف التي ساقها سماحته عن الإفتاء، واستعرض جدوله اليومي بالأوقات والجهد الذي يبذله في خطبة يوم عرفة، وكذلك مساره الطويل في إمامة أكثر من أربعة مساجد إماماً للفروض، ثم خطيب للجمعة وعلاقته الحميمة بمسجد الإمام فيصل بن تركي (الجامع الكبير)، وطلب الملك فهد منه أن يتولى خطبة الحج لعامين، ثم في العام الثالث تثبيته له - أطال الله في عمره على طاعته - ولا يرتاح فضيلته خلال عام كامل حتى تجهز تلك الخطبة ويرتب أفكارها ومحاورها، ومن الطرائف التي أتحفنا بها سماحته في يوم مولده أن رجلاً قدمه لأهله وبارك لهم فيه، وقال: - بإذن الله - هذا المولود سيكون زوجاً لإحدى بناتنا، وقدَّر الله أن يتزوج فضيلته بعد أن أتم 24 عاماً ابنة ذلك الرجل - رحمه الله -.
ختاماً، هذا اللقاء الرائع ستتحفنا بمثله إذاعتنا الغالية وبرنامجنا الحبيب.. اللهم بك أصبحنا وبشكل شهري، وهي خطوة مباركة ولا شك، ونتطلع للمزيد من إلقاء الضوء على حياة الرواد، لأننا اليوم نعاني من فجوة كبيرة بين النشء لا نقول الجديد، ولكن حتى المتوسط وبين العلماء والقادة وأهل الخبرة وتوقعهم أنهم قد استغنوا عن النصيحة وأصبحوا يجدونها عبر عالمهم الخاص الذي بين أيديهم، وأن مجتمعاً افتراضياً أصبحوا يرتبطون به يسير معهم حيث ساروا، وهذا لا شك له عواقب يُقدّرها الجميع، ونتطلع من وسائل إعلامنا المختلفة أن تعيد استنبات الكثير من القيم التي لم نفقدها بفضل الله، ولكن ربما لم تكن لها الأولوية في هذا العصر، خصوصاً أن خبراء الإعلام التقليدي والحديث ما زالت الريادة بهم والحضور لهم.
- فهد بن أحمد الصالح