زياد بن حمد السبيت ">
منذ أول ساعة دلفتُ فيها إلى الصف الدراسي وجلست على كرسي خشبي مع طاولة تكفي لثلاثة أطفال من ذلك العهد! وفي تلك الغرفة الصغيرة التي لا تتجاوز الخمسة أمتار طولاً وعرضاً وقد حدّقتُ أمامي في لوحٍ خشبي أسود شديد السواد لأول مرة تقع عيني عليه بحيث لم أشاهده في مكان آخر من قبل يُسمّى السبورة! ثم دخل علينا رجل لم أره من قبل أيضاً وعليه قميص وبنطال ويرتدي نظارة طبية يُقال له الأستاذ أو المعلم! منذ ذلك الصباح وهو أول عهدي بالكتب والدراسة وعهدي بالنظام والانتظام حينما أتذكره يعاودني حنين الماضي بمشتقاته الممتعة وبساطته المعهودة، وكلما رأيت طفلاً كنت في عمره ينبش ذاكرتي وسط ضباب كثيف يزداد مع تقادم الأيام أجلوه من عيني شيئاً فشيئاً فأرى أشخاصاً تتحرك فتبين أكثر كلما انحسر الضباب مع جمادات أشبه بكائنات حية تدور في فلك الحكاية الزمنية! كالجدران التي كان نصفها بلون والنصف الآخر بلون مغاير وبينهما خط رفيع يفصلهما كعلامة ديكور مميزة! والكتب التي تلمستّها يداي بحذر وعناية أول مرة فرحاً وبدفاتر شديدة البياض لم يجر عليها قلم الرصاص الذي لم يُبر? بعد! فكل شيء كان جديداً حتى الثياب أخاف من كثر ملامستها الاتساخ فأحاول ألا أحدّث نفسي بمعاودة التباهي حتى لا يحدث ما لا يُحمد عقباه! خطوات تتزايد مع مرور الأيام إلى ذلك البيت المسلح القابع في سكك ملتوية حاملاً حزمة الكتب الثقيلة بالنسبة لطفل في السابعة قد حفظ الطريق كساعة لا تُخطئ صاحبها التوقيت المعد! وحيث إيقاع الزمن يتسارع والأيام تتصرم وكل من كان في الصف الدراسي مستطيع بغيره كما قال المعريّ! فكان الأستاذ أو المعلم هو الأب والأم والأخ الكبير يداري صغاره بحنانه وعطفه ويعلمهم ما كانوا يعلمون! ونحن في غبطة على استحياء ينازعنا الهوى بالكسل وإيثار الراحة على الانتظام والاجتهاد ويثنينا عن ذلك الخوف من العقاب!!
ثم الطمأنينة من صاحب القلب الرؤوم!
حتّى كأن لم يكن إلا تذكّره
والدّهر - أيتّما حالٍ - دهاريرُ
مازال الأستاذ مصطفى معلم الصف الأول يحرك ذاكرتي بطبشوره الأبيض ويبعثها لكي أرى نقوشه عليها حين أجهد? نفسه وبقايا الطبشور على قميصه وبنطاله وقد امتلأت يداه بياضاً من فُتاته في سبيل تعليمنا نقرأ ونكتب ومتى نتكلم ونسمع و كيف نصلي ونركع! فكان للمواد أجمع!
لا نرى معلماً آخر حتى في التربية البدنية كان هو المدرب والحكم واللاعب الجوكر! حفظنا تقاطيع وجهه أكثر ممن يعيش معنا في المنزل! كما حفظنا جميع المواد التي درسناها فلا نخطئه ولا نخطئها! عندما أتى بي والدي إليه بالفصل قال له : لك اللحم ولنا العظام!! كناية تعلمها الرجل الأميّ عن تمام وكمال التعليم دون الرجوع إليه فخُيّل إليّ أن أبي قد أتى بي إلى ملحمة وقصاب! وليس إلى مدرسة ومعلم فراعني كلامه! فبدّل المعلم الفاضل ذلك الخوف بالطمأنينة والتشجيع؛ فعلى يديه تعلمنا ودرسنا وتربينا فكان بحق قدوة ومثالا يحتذى به، ويقرن بالذكر الدعاء له مصحوباً بالشكر الجزيل مع وافر التقدير والاحترام، كل ذلك لم تنسنا فواصل المسافات عندما شببنا عن الطوق ولم يبعدنا عدّاد الزمن عن تذكر من كانت أياديه البيضاء تنسج خيوط المستقبل بعناية المجتهد المخلص كالحائك الماهر المتقن لصناعته وكالزارع الذي غرس، وقد شوهد ثمر غرسه! فطُبعت في الذاكرة حكايات القدماء مع معلميهم وتوقيرهم الفائق واعترافهم بفضله من تقبيل الرأس حتى المبادرة في تناول حذائه، كما حصل مع الأمين والمأمون ابني الرشيد وغيرهما!
وما قتل؟ الأحرار كالعفو عنهم
ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا؟!
فالمعلم تضحيته لا تكمن في وقته فذلك له ثمنه! وإنما جهده يكون في تركيزه بأعصابه وتضحيته بقلبه ودمه وعقله وروحه ومغالبة النفس عن الاستسلام للراحة على الرقي بها، وتطوير الذات لكي يبني أساساً جديداً في أرض بِكْر! وينضح في وعاءٍ فارغٍ لم يُمس بعد!
لذلك أغدق فيه الشعراء لسمو مهنته وإن كانت بعضها خصومة إلا أنه اعتراف بالفضل وهو صاحب فضل لا شك منذ فجر التاريخ! فالوطن يعتمد عليه كعينين في رأس يرشد صاحبه أنّى يتوجه وأياديه الحنونة كأيادي القابلة حينما تمسك بالطفل حديث الولادة توصله إلى أمه؛ فهو كذلك يلف بعطفه وجهده تلميذه حتى يوصله إلى المستقبل الواعد والطموح المنتظر، وكل قد سعى فيما يبدع ويبرع فيه فيكونون كالعناقيد المعلّقة بأغصان في شجرة عظيمة تسمّى الوطن تقلّهم بأرضها وتظلهم بسمائها وتطعمهم من خيراتها، فيبادلونها الحب بالحب والوفاء بالوفاء والاحتواء بالتضحية! وبالعلم والتعلم تكون الحماية والحصن الحصين.