محمد بن إبراهيم الماضي
نعيش في بلد عظيم هو المملكة العربية السعودية؛ عظيم بتاريخه وحضارته وقيادته ورسالته وعلمائه؛ بلد أشبه ما يكون بقارّة، إذ تتنوع فيه الحياة بكافة أشكالها وألوانها الطبيعية والمناخية والبشرية والحضارية، بلد يملك حاضراً زاهياً عنوانه: (العمل والبناء).
كما يملك في الوقت ذاته آثاراً قديمة جداً، تؤكد على عمق حضارته ورسوخها منذ أزمان سحيقة، بلد يملك رسالة عظيمة هي رسالة الإسلام العالمية، المكلفين بتبليغها إلى كل الناس. بلد هو مهبط الوحي ومنبع العروبة واللغة العربية. بلد امتد - ويمتد - تأثيره إلى الكثير من العباد والبلاد، إليه يتجه للصلاة خمس مرات كل يوم أكثر من مليار مسلم، بلد يأتي ضمن أقوى دول العالم تأثيراً في السياسة والاقتصاد، فهو أحد أعضاء مجموعة العشرين الأكثر تأثيراً في الاقتصاد العالمي، وهو القطب الأول في مجال طاقة النفط، كما هو البلد الأول في العالم الأكثر إنفاقاً ومساعدات إنسانية لدول العالم المختلفة، بلد حباه الله قيادة رشيدة وحكيمة، هي اليوم وفي ظل الأحداث الجسيمة التي تمر بها المنطقة العربية من يقود العمل العربي، ففي ظل الفوضى العارمة التي تكاد أن تعصف بالوطن العربي كله؛ هي من تتولى قيادة العرب في هذه اللحظة التاريخية المصيرية، فهذه القيادة تعمل بكل جهودها للتصدي لهذه الأخطار، وتحاول إيقاف هذا التداعي وهذا النزيف المستمر منذ أكثر من خمسة أعوام؛ وسوف يسجل لها التاريخ بأحرف من ذهب مواقف سياسية حازمة وقوية ومؤثرة.
وعلى الصعيد الداخلي تستمر ورشة الإعمار الهائلة بإنشاء المشاريع الحضارية والاقتصادية والعلمية الضخمة، كما يشهد المسجد الحرام في مكة المكرمة والمسجد النبوي في المدينة المنورة أعظم مشروع للتوسعة في التاريخ. بلد بمثل هذه الأهمية والحيوية هو بلد عظيم دون شك، وبالتالي تحتاج هذه المنجزات الباهرة إلى إعلام قوي يُترجَم بالصوت والصورة عبر برامج تلفزيونه الوطني، بحيث ينقل ويعكس مبادرات الخير التي تقوم بها القيادة الرشيدة، ويسهم في الدفاع عن الوطن ضد فئة من المتربصين من محترفي نشر الكراهية والأحقاد بين الشعوب، فضلاً عن حاجة الوطن والمواطن إلى تلفزيون وطني يهتم بإبراز وإظهار مكوناته الثقافية والحضارية والعلمية عبر برامج وأفلام وثائقية احترافية تبرز غنى وتنوع وثراء المكون البشري والطبيعي والثقافي والحضاري لهذه البلاد. كما يأمل المواطن من تلفزيونه الوطني أن يعمل على تبني وتقديم برامج حوارية راقية وشفافة، تتيح للمواطن السعودي أن يعبر عن رأيه ومشاعره وفق أبجديات ومقتضيات الحوار وآدابه، فضلا عن حاجة أبناء وشباب هذه الأمة إلى أن يبادر تلفزيونه الوطني إلى تقديم برامج تعرف الأجيال الشابة برواد هذه البلاد، في كل المجالات السياسية والاقتصادية والدينية والعلمية والحضارية وغيرها، حتى تكون بمثابة القدوة والنموذج للشباب.
وكما ترون فالمتطلبات كثيرة والمعطيات أكثر، وتتطلب من التلفزيون أن يواكبها ويقدمها ويعرضها بمستوى قوتها وأهميتها، ولقد استطاع التلفزيون السعودي خلال السنوات الماضية أن ينقل الكثير من هذه الوقائع والأحداث للمواطن، إلا أنه اليوم مطالب أكثر من أي يوم مضى إلى أن يعمل على تطوير أدائه وأسلوب عمله بشكل أكبر، بحيث تأتي جهوده معبرة عن القوة التي تمثلها المملكة العربية السعودية اليوم في الكثير من الميادين والمجالات.
وخلال هذه الأعوام الطويلة أسهمت - مشكورة - أجيال كثيرة من القيادات الإدارية في خدمته وتطويره بالشكل الذي ارتأته كل قيادة حسب اجتهادها، ووفق ما كانت تراه مناسباً ومتناسباً مع الإمكانات والصلاحيات في ذلك الزمن.
تاريخياً استطاع التلفزيون في سنواته الأولى التي تلت تأسيسه أن يحقق حضوراً وفاعلية وتأثيراً كبيرا، إلا أنه في عصر السماوات المفتوحة، وبروز المنافسين من الفضائيات الأخرى؛ بدأ دوره وتأثيره يخبو ويتراجع بشكل مستمر.
ثم إن من حق المواطن السعودي أن يحظى كغيره من مواطني الشعوب الأخرى بتلفزيونه الوطني الذي يعبر عنه وعن آماله وطموحاته؟ تلفزيون يحترم عقليته وذكاءه؟ تلفزيون يكون هو المصدر الأساس الذي يعتمد عليه المواطن ويستقي منه وهو واثق من معلوماته وأخباره، مطمئناً إلى صدقها ووثوقيتها في تحديد خياراته وقراراته؟
ومع تعيين وزير جديد وشاب لوزارة الثقافة والإعلام منذ أشهر قليلة، هو معالي الدكتور عادل بن زيد الطريفي؛ أعطى مؤشراً وأملاً بأن القادم سيكون أفضل بإذن الله.
بدءاً فقد انتهت علاقتي كموظف مع التلفزيون السعودي رسمياً اعتباراً من 1/7/1436هـ محالاً إلى التقاعد بعد خدمة تجاوزت الثلاثين عاماً، متنقلاً بين العديد من إداراته ولجانه، وانتهى بي المطاف إلى أن أكون مؤسساً ومديراً عاماً لقناته الثقافية لأكثر من خمسة أعوام. انتهت العلاقة الرسمية ولكن لم ولن تنتهي علاقة الحب التي تجمعني بهذا الجهاز الهام، وأحسبني وقد قضيت في ممراته وأقبيته ربما أكثر من الوقت الذي قضيته في منزلي وبين أبنائي. هي إذاً ليست علاقة وظيفية فحسب، ولكنها أكثر من ذلك بكثير، فهي علاقة حب ووجدان ومسؤولية، وهذا ما دفع بي إلى كتابة هذا المقال لكي يكون مرتكزاً أو منطلقاً للتطوير وللوصول بالتلفزيون إلى بر الأمان، لكي يعود من جديد منافساً وحاضراً بقوة في المشهد الإعلامي، ومحتلاً للمكانة التي هو أهلاً لها وجديراً بها.
بداية لا بد من التأكيد على أن الدولة والقيادة الرشيدة لم تبخل على التلفزيون السعودي بالدعم المالي الكبير وبالدعم المعنوي، وهي تأمل من كل ذلك أن يكون صوتاً لها وللمواطن، ومعبراً عن توجهاتها ومدافعاً عن الوطن والمواطن ضد الأعداء، فضلاً عن كونه - أي: التلفزيون - ناقلاً وعاكساً للمشاريع الضخمة والأعمال الجليلة التي تقوم بها الدولة لإسعاد المواطن ورفعة الوطن.
فمن أجل هذا:
1- لم تبخل الدولة بالإنفاق المالي الكبير والسخي على إنشاء البنية التحتية والأساسية من مشاريع وبناء مجمعات ومراكز تلفزيونية ضخمة وحديثة في كثير من مناطق المملكة.
2- وظفت الدولة الآلاف من أبناء الوطن للعمل في هذا الجهاز المهم، وتجاوز عددهم أكثر من 6000 آلاف موظف، ما بين رسميين وعقود وتعاون. (العدد التقريبي لموظفي هيئة الإذاعة والتلفزيون)
3- ابتعثت الدولة ومنذ وقت مبكر جداً - حتى قبل أن يعمل التلفزيون فعلياً - الكثير من موظفيه للتدريب والتعليم والحصول على أعلى المؤهلات وأفضل المعارف، في أرقى جامعات ومعاهد العالم.
4- قدمت الدولة ولا تزال تقدم ميزانيات ضخمة، أحدثها تجاوز المليار وثمان مئة مليون ريال تقريباً (ميزانية هيئة الإذاعة والتلفزيون للعام الحالي).
5- وأخيرا ومن أجل منحه المرونة المالية والإدارية، فقد تمت الموافقة على تحويله إلى هيئة عامة مستقلة إدارياً ومالياً، يكون لديها الكثير من الصلاحيات والامتيازات التي ستعطي التلفزيون قوة كبيرة للانطلاق بقوة إلى الأمام ومنافسة الكبار.
في ظل هذا الواقع الداعم والمحفز، لا يمكن القبول بأي حجة أو تبرير في عدم تلبية الطموحات و في تقديم تلفزيون وطني قوي نفاخر به جميعاً.
كما لا يمكن أيضاً قبول أو تبرير فكرة أن التلفزيون الرسمي أو الحكومي يصعب تطويره وإصلاحه أو تحسين أداؤه تحت أي ذريعة كانت، وإلا فماذا نقول عن تلفزيونات رسمية لدول أخرى تعمل في أماكن كثيرة وقريبة منا كان واقعها يقارب واقع التلفزيون السعودي إن لم يكن أكثر تواضعاً، وبعد سنوات قليلة وبالعمل الجدي والمسؤول وبعد إدخال الكثير من التغييرات والتطويرات أصبحت هذه القنوات منافسة بشكل كبير.
والسؤال الكبير الذي يطرح نفسه الآن وبقوة هو:
كيف يبدأ التلفزيون السعودي مشوار الصعود والمنافسة من جديد؟
* الإدارة.. الإدارة:
لعل الخطوة الأولى والمهمة والعاجلة التي ينبغي على التلفزيون أن يعمل بمقتضاها هي العمل على تبني فكر إداري جديد عنوانه التجديد والتطوير ومواكبة روح العصر والبدء من حيث انتهى الآخرون، ويكون منطلقه وهاجسه وهدفه هو وضع أرضية صلبة من الأنظمة والقوانين والإجراءات التي تكون غايتها تسهيل واختزال إجراءات العمل إلى أقل حد ممكن والتي تكفل للمسؤول والموظف على حد سواء سرعة الحركة واتخاذ القرار والتصرف في كل الأوضاع والأوقات دون بروز عقبات إدارية أو مالية تحول دون إنجاز المهام في وقتها المحدد، فالهدف في الأخير هو الارتقاء بمستوى ونوعية المنتج الذي يقدمه التلفزيون بشكل يكون منافساً وقادراً على أن يكون جذاباً لتسويقه وبيعه داخلياً وخارجياً.
ثم العمل على وضع معايير وشروط ومواصفات لنوعية الوظائف، وكذلك معايير ومواصفات للموظفين الذين يشغلون هذه الوظائف، وتكون مبنية على أسس علمية ومنهجية، بحيث تحرص على إعلاء قيم الجدارة والكفاءة والاحترافية وروح المبادرة والإيجابية والرغبة في صنع الفارق وغيرها، والحرص على اختيار من يشغل هذه الوظائف بحرص شديد وعناية فائقة.
ثم نرى أن يتم تحديد صلاحيات وسلطات كل وظيفة وإدارة وفق تنظيم هيكلي جديد وحديث ومتطور يلبي احتياجات التلفزيون الراهنة والمستقبلية في العمل وفق إيقاع سريع وسهولة في الإجراءات وتحديد للاختصاصات والإدارات بشكل دقيق ومحدد، بحيث يمكن في ضوئه قياس الأداء ومعرفة المقصر من غير المقصر، أسوة بما هو موجود في القطاع الخاص.
ثم نأتي للحديث عن الموظفين الذين يعملون في هيئة الإذاعة والتلفزيون السعودي حالياً ويتجاوز عددهم الـ 6000 آلاف موظف ما بين رسمي وعقود وتعاون، وسنقف قليلاً أمام هذا الرقم، فهو نظرياً رقم كبير دون شك، وتحد حقيقي لا بد للمسؤول وصاحب القرار في التلفزيون أن يتعامل معه بحكمة، فهو أولاً أمر واقع ولا بد من التعامل معه بشكل أو بآخر، فبدءاً ستكون الخيارات أمام صاحب القرار في الهيئة محدودة جداً في هذا الجانب، فهو لا يملك إغراءات يقدمها للموظفين لكي يغادروا التلفزيون مبكراً لكي يقلص هذا العدد إلى الحد المقبول، فلا شيك ذهبي يملكه مثلاً يمكن أن يغري به الموظفين ويقدمه كتعويض، كما لا يمكن لهذا المسؤول أن يقلص العدد ويبعد هؤلاء الموظفين إلا وفق إجراء نظامي محدد سلفاً، لذا فأعتقد أن المنظور الذي سيرى به المسؤول إلى هذا العدد هو من سيحدد بشكل أساس مدى إيجابية وسلبية هذا العدد الكبير من الموظفين، فإذا نظر المسؤول إلى أن هذا العدد من الموظفين هو عدد كبير وفائض عن الحاجة وأنه سيكون عبئا على الهيئة وميزانيتها فهو كذلك، وأما إذا نظر إيجابياً إلى هذا الرقم باعتباره قوة يمكن للتلفزيون استثمارها لصالحه فهو كذلك أيضاً، إلا أنه في هذه الحالة سوف يحتاج إلى اعتماد بعض الأساليب والمناهج لكي يكون هذا العدد قوة حقيقية وفعلية للتلفزيون، فلا بد أولاً من توفير تدريب لكافة منسوبي التلفزيون على أعلى المستويات والتعاقد مع مؤسسات عالمية وبيوت خبرة دولية معترف بها وبإنجازاتها في هذا المجال - ولحسن الحظ فقد أصبح للهيئة مؤخراً معهد تدريب - وهو ما سينعكس فعلاً على رفع مستوى أداء الموظفين، ومن ثم تحسين جودة ما يقدمه التلفزيون من منتج، كما أن الموظف في هذه الحالة سيكون استثماراً جيداً للهيئة، إذا تستطيع الهيئة استثمار جهود ومواهب موظفيها وتأجيرها للقطاع الخاص والعام على حد سواء، بحيث تأتي كرافد جديد للدخل المالي للتلفزيون.
* السعودة:
وفي هذا السياق وبرغم اهتمامنا ودعمنا لمفهوم السعودة إلا أن هذا لا يعني الاكتفاء بالقدرات السعودية فقط، إذا لا بد أن يهتم التلفزيون باستقطاب الكفاءات المتميزة من غير السعوديين وإغراءها بشكل جيد، فالمنافسة شديدة بين كل القنوات للظفر بالمواهب المتميزة، فبهذه العقول المبدعة تستطيع أن تنافس وتحقق النجاح، كما ينبغي للتلفزيون أن يحافظ على المتميزين من أبنائه، ويعمل على تشجيعهم على البقاء ودعمهم مادياً وأدبياً وتوفير الأجواء المناسبة لهم، بحيث تساعدهم على الإبداع والإنتاج، وبحيث يكون التلفزيون السعودي بيئة جاذبة للمواهب.
* ترتيب البيت التلفزيوني من الداخل:
وفي هذا الإطار أرى من الضروري أن يتم الالتفاف إلى الداخل التلفزيوني وذلك بعمل مراجعة شاملة وغربلة كاملة لما هو موجود، ودراسته وفحصه وتحديد الاحتياجات ومعرفة الأولويات وما يجب أن يلغى وما يجب أن يدمج وما يتطلب الأمر ضرورة استحداثه وفق فهم للدوافع ومعرفة بالاحتياجات ضمن الإمكانات المتاحة، كما ينبغي أن يتم وضع خطة إنتاجية للبرامج وتكون على مدار العام، بحيث يكون العمل مستمراً، وبذلك تتراكم الخبرات، وتصنع التجارب، ويرتقي مستوى العمل المقدم.
ثم العمل على وضع هوية مميزة للتلفزيون السعودي بكافة قنواته، بحيث تحدد أهم ملامحه وعناصر تكوينه، وأخيراً من الضروري صنع التقاليد التلفزيونية الخاصة به، كما هو معمول به في تلفزيونات العالم المتقدم.
* الاستثمار:
الاستثمار ينبغي أن يكون أحد المفاهيم والأذرع الكبيرة التي يجب أن يعمل عليها التلفزيون السعودي في مرحلته القادمة، وذلك بهدف زيادة إيراداته المالية بشكل يمكنه من تحقيق أهدافه وفق الآتي:
- الإنتاج البرامجي:
صناعة البرامج والدراما التلفزيونية أمر في غاية الأهمية، إذا أنها المنتج الذي يقدمه ويعرضه التلفزيون لمشاهديه، لذا فلا بد أن يحظى هذا المنتج بالعناية الكاملة والفهم الكامل لأدبياته وأبجدياته، وبحيث يقوم به متخصصون مدركون لأبعاده وأهدافه، ومعرفة بوسائله الكفيلة بصنع برامج احترافية ناجحة، يقوم بها محترفون ولا تترك للهواة أبداً.
أمر آخر مهم في صناعة البرامج التلفزيونية، وينبغي أن يعطى من العناية والاهتمام الشيء الكثير؛ ألا وهو جانب المضمون، لذا لا بد وأن تكون المبادرة من التلفزيون في تحديد الموضوعات والأفكار واختيار المناسب منها ليتم تناولها في هذه البرامج والدراما، وفق خطة برامجية تتلمس الاحتياجات الفعلية سياسياً واجتماعياً وثقافياً لكل مرحلة، فلم يعد مجدياً ولا مقبولاً أن يكتفي التلفزيون بما يقدم إليه من أفكار ومقترحات برامجية من المؤسسات الخاصة فقط، فللنجاح وسائل وطرق وشروط ومعايير من أهمها: أن يضع الخطط المناسبة والملائمة لكل فترة من الزمن، فمتغيرات الحياة كثيرة، وسرعة تعاقب الأحداث وتغيرها كبير، وهو ما يتطلب من التلفزيون أن يكون متكيفاً معها ومتمشياً لها بشكل صحيح، المهم أن تكون المبادرة في صنع الخارطة البرامجية والدرامية وطرح الأفكار والمواضيع ينطلق من التلفزيون ذاته، ولا يمنع ذلك بطبيعة الحال من استقبال الأفكار والمبادرات المتميزة من القطاع الخاص، وفق فهم للواقع ووفق قراءة استشرافية للمستقبل قدر الإمكان، وبهذا الأمر وحده يكون تأثيره أقوى، وفاعليته أكبر، وقابلية المشاهدة والمتابعة أكثر.
وبعبارة مختصرة نؤكد أن صناعة المحتوى البرامجي هو حجر الأساس في هذا المشروع أو الاتجاه، لذلك لا بد للتلفزيون أن يهتم بتبني فكر برامجي جديد يتوافق والمرحلة الحالية والمستقبلية، وبحيث تتوفر به كافة شروط ومواصفات الإبداعية والتجديدية، وبحيث يجد المشاهد ضالته وغايته في هذه البرامج التي تلبي تطلعاته وتشبع طموحاته كمشاهد، وهذا يتطلب من التلفزيون انتهاج أسلوب عمل برامجي جديد، يجمع بين الشكل والمضمون، وفق رؤية عصرية متطورة.
لذا فمن المهم أن يتواصل التلفزيون مع القطاع الخاص والقطاع العام لكي يكون هو المنتج والناقل في آن واحد لأهم الأحداث والاحتفالات والمناسبات التي تقيمها هذه المؤسسات بين فترة وأخرى.
وأمر آخر يمكن للتلفزيون الاستثمار فيه، ألا وهو تأجير أستوديوهاته وفق تنظيم وأسعار محددة ومعلن عنها مما يسمح بتوفير مصدر دخل آخر للهيئة، وكذلك تأجير عربات النقل الخارجي، وكذلك الاستفادة من المواد البرامجية الكثيرة الموجودة في مكتبة التلفزيون، وإتاحتها للجمهور ولمؤسسات القطاع الخاص والعام بأسعار مشجعة.
وأخيراً يمكن للتلفزيون الاستفادة من خبرات مخرجيه ومذيعيه ومعديه ومصوريه وكافة المهن الفنية الأخرى التي تحتاج إليها الأعمال التلفزيونية، وجعلها متاحة للقطاع الخاص وبأسعار منافسة للسوق. كما يتوافر للتلفزيون العديد من الوسائل الأخرى التي يمكن بحسن توظيفها بشكل صحيح سوف تصبح مصدراً للدخل المالي له. وهذه هي بعض الأفكار، ويقيني أنه يمكن استحداث الكثير من الأفكار الإبداعية الجديدة، بما يسهم في تحسين دخل الهيئة من إذاعاته وقنواته.
* قطاع التسويق:
وهذا أمر غاية في الأهمية هو الآخر، وعلى الهيئة إعطاءه اهتماماً أكبر، فهو القطاع الذي سيعنى بالتسويق والترويج لبرامجه ووظائفه وعروضه وسائر خدماته، لذا فمن المهم أن يكون قطاعا كبيرا ويكون بمثابة أحد الأذرع الهامة للتلفزيون بحيث يتم استقطاب أفضل الكفاءات والقدرات المتميزة في هذا الفن، بما يؤدي إلى زيادة بيع برامجه وخدماته، وبما يسهم في زيادة دخل الإعلان في إذاعاته وقنواته.
* قطاع الإعلان:
كما أنه من الضروري تنشيط وتفعيل الإعلان في التلفزيون والعمل على أن يكون قطاعاً كبيراً وأحد الأذرعة المهمة للتلفزيون، بحيث يستقطب له أفضل الخبراء في مجال صناعة الإعلان، ووضع سياسة إعلانية جديدة، وهدفها الحصول على الجزء الأكبر من كعكة الإعلان في المنطقة، وهذا يتطلب ابتكار العديد من الوسائل والأساليب الإعلانية الجديدة.
وفي هذا الإطار لا بد من عمل تسعيرة إعلان جديدة، وتكون منافسة ومغرية للمعلن، وكذلك لا بد من وضع حوافز مادية للمندوبين الذين سيتسابقون من أجل إحضار أكبر كمية إعلان ممكنة.
* القناة الثقافية:
واسمحوا لي في هذا السياق أن أقدم لكم بشكل سريع ومختصر وصفاً لكيفية تأسيس القناة الثقافية، كأنموذج في تحقيق النجاح في تلفزيون رسمي وبأبسط الإمكانيات.
وبداية أشير إلى أن استلامي وقبولي بتكليفي بالإشراف العام على قناة الثقافية كان محل استغراب العديد من زملائي في التلفزيون، فقد كانوا يتوقعون أن أرفض هذا التكليف عطفاً على معرفتهم بتواضع الإمكانيات التي تتوافر للثقافية والتي لا تشجع على الإبداع وتحقيق النجاح، بل امتد هذا الاستغراب إلى خارج التلفزيون، فقد صرح بعض المثقفين والإعلاميين بأنهم كانوا يتوقعون فشل القناة الثقافية بناء على معرفتهم بالمعطيات المتوافرة الغير مشجعة.
وكلاهما محق في رأيه وتصوره، فقد كانت القناة الثقافية هي القناة الوحيدة من بين قنوات التلفزيون السعودي التي لا تملك إلا أستوديو واحد، عمره الافتراضي قد انتهى منذ سنوات، ولم تشمله يد التطوير والتحديث وكان مخصصاً للبث، فيما بقية القنوات السعودية الأخرى لديها أستوديوهان أو ثلاثة، فضلاً عن حداثة تجهيزاتها، وكذلك كان معظم العاملين في الثقافية هم من الشباب ممن لا يملكون لا الخبرة ولا التدريب المناسب، علاوة على تواضع الميزانية المخصصة للثقافية.
وبرغم هذه المعوقات فإنها لم تمنعنا من التفكير في استحداث بدائل وطرح خيارات أخرى، فأمام حاجتنا إلى أستوديو للإنتاج، فقد قمنا على سبيل المثال بالاستفادة من عدة أماكن مختلفة، حيث قمنا بالتسجيل في الفنادق والاستراحات والمنازل حتى تم توفير أستوديو للإنتاج بعد سنوات من إنشاء الثقافية، فلم نكن نقف أمام أي عقبة، بل كنا نبحث عن البدائل فوراً ونعمل عليها.
وأمام ضعف الميزانية المخصصة لإنتاج البرامج، فقد دفعنا هذا الأمر إلى الاعتماد على إنتاج القناة الذاتي، وفقاً لمقولة: (الحاجة أم الاختراع)، لذا فقد كانت القناة الثقافية هي أعلى القنوات السعودية إنتاجاً لبرامجها بإمكاناتها الذاتية.
وأمام عدم احترافية معظم - إن لم يكن كل - الشباب الذي يعمل في الثقافية فقد كنت أقدم لهم شخصياً تدريباً وهم على رأس العمل، وبشكل يكاد أن يكون يومياً في كيفية كتابة النص التلفزيوني بكافة أنواعه، وفي كيفية صناعة البرامج الناجحة، وكذلك في كيفية تنسيق هذه البرامج وتقديمها في الأوقات المناسبة لها حسب موضوعاتها واتجاهاتها... إلخ.
وكذلك كنا نعمل بشكل مستمر على اكتشاف المذيعين الجدد الذين نلمس فيهم خامة المذيع الجيد، سواء عبر اكتشاف ذلك من ضيوف برامجنا أو من خلال البحث عنهم بالمعرفة الشخصية.
ثم نجري لهم الاختبارات لنتأكد من ملاءمتهم وقدرتهم واستعدادهم للتطور، ومن ثم نتيح الفرصة للمتميز منهم في الظهور، وقد أثبت الكثير منهم نجاحاً كبيراً، بل وأخذت قنوات دولية جديدة تستقطب بعضهم للعمل بها.
باختصار؛ كنا نحاول الاستفادة من كافة المعطيات الموجودة أمامنا على قلتها وتواضعها، نتعامل معها بواقعية ونحاول الاستفادة منها قدر الإمكان، وفي الأخير أمكننا إنجاز مشروع تأسيس القناة الثقافية بأقل التكاليف المالية وفي وقت قياسي جداً، ولقد حققت الثقافية في سنوات قليلة نجاحات كثيرة، وحصلت على إشادات وشهادات تميز من كثير من كبار المسؤولين والمثقفين وعامة المواطنين، وأصبحت القناة الثقافية هي القناة المفضلة والتي توجه لها الطلبات لكي تكون راعية لكثير من الأحداث والمناسبات الهامة.
والشاهد في كل هذا الكلام أنه لا شيء يمكن أن يقف أمام إرادة الإنسان مهما ضعفت الإمكانات، فما بالك والتلفزيون السعودي يحمل الكثير من العناصر والإمكانات التي يمكن بحسن توظيفها واستثمارها بما يؤدي إلى قيام تلفزيون وطني قوي يكون محلاً لإعجاب المواطن وتقديره.
* المشاهد السعودي:
ثم أمر آخر لا بد وأن يتم الانتباه إليه بشكل جيد؛ وهو أن المواطن السعودي لم يعد ذلك المشاهد القديم الذي يرضيه تقديم أي برنامج أو عمل إبداعي كما كان حاله عند بدايات تأسيس التلفزيون السعودي، المشاهد السعودي اليوم ارتفع وعيه، وزادت ثقافته، وارتقت ذائقته، ففي ظل السماوات المفتوحة أصبح يشاهد الكثير والكثير من الإبداعات العالمية، ولم يعد سهلاً إرضاؤه وإشباع طموحه بأي عمل كان، وهذا يلقي بعبء كبير على التلفزيون السعودي اليوم بأن يتم تقديم الأعمال بشكل احترافي وليس بأسلوب الهاوي، فلم يعد مقبولاً ولا مستساغاً - وقد تجاوز عمر التلفزيون السعودي اليوم أكثر من خمسين عاماً - أن يرضى بتقديم أي عمل ما لم يضمن له الحد الأدنى من الاحترافية التي تحترم عقل وثقافة مشاهد اليوم، والذي تصل إليه اليوم المعلومة والخبر صوتاً وصورة في التو واللحظة، عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي أتاحت للمواطن أن يصنع صحافته بنفسه؛ يتابع الحدث ويصوره وينقله للآخرين ويبدي وجهة نظره وملاحظاته، ويشاركه في اللحظة ذاتها الملايين من مستخدمي هذه الوسائل الحديثة.
* المنافسون:
إذاً فموقف التلفزيون السعودي اليوم ليس سهلاً، فقد ازدادت أعداد منافسيه ولم تعد مقتصرة على الفضائيات، فهو يدخل في منافسة حامية الوطيس مع منافسين كثر، الفائز فيها من يتفاعل مع الأحداث، ويقدمها باحترافية وشفافية ومصداقية، ولا خيار غير هذا الطريق للفوز بقلب وعقل المشاهد السعودي.
واليوم حينما أشاهد أطفالي - وأعتقد أن الحال هو كذلك لدى بقية المواطنين - حينما أراهم وقد أمسك كلاً منهم بجهاز الآيباد الخاص به وبالأجهزة الذكية الأخرى يشاهد من خلاله المسلسلات والبرامج المفضلة له، بحيث يختار وقت المشاهدة ونوع البرنامج، ولم يعد يلقى بالاً لقنوات التلفزيون المخصصة للأطفال بالرغم من كثرتها؛ أجد الوضع حقيقة يزداد صعوبة أمام التلفزيون السعودي، فلا بد والحال هذه أن يبدأ التلفزيون في إعادة النظر بشكل جدي وعاجل في تدارس الوضع مع الخبراء وأهل الاختصاص، ولا يمنع - تحقيقاً للوصول إلى الهدف - من الاستعانة بشركات عالمية ممن تملك الخبرة والتجربة، ويشهد لها تاريخها بالجدارة والكفاءة من الاستعانة بها في تطوير أداء ومضمون برامج التلفزيون السعودي.
* الإعلام الموازي:
وبالرغم من أن المملكة يتوافر لها اليوم ما يمكن اعتباره إعلاماً موازياً قوامه وعتاده القنوات الفضائية السعودية الخاصة التي أصبحت تملاْ الفضاء العربي وتمثل حضوراً إيجابياً للإعلام السعودي وحقق بعضها نجاحاً كبيراً وتؤدي دوراً كبيراً في التعريف بالمملكة وحضارتها وثقافتها، إلا أن ذلك لا يعني بأي حالٍ أن يكون هذا الإعلام الموازي بديلاً عن التلفزيون الوطني، فلكل منهما أدواره ووظائفه بما لا يتعارض مع الآخر أو أن يقوم مقامه.
* مركز المعلومات:
تمثل المعلومات الركيزة الأساسية والحيوية لأي منظمة أو وسيلة إعلامية لبسط تأثيرها واكتساب الاحترام والمصداقية، إذ بدون معلومات حقيقية وموثوقة لا معنى لعمل هذه المؤسسة أو تلك.
ومن أجل الوفاء بالعمل الموكل إليه، يحتاج التلفزيون إلى إنشاء (مركز معلومات) متقدم، تتوافر به أحدث المعلومات وأقدمها مكتوبة، وصوتاً وصورة، هذا المركز سيكون القلب النابض لهذا الجهاز، فهو الذي يغذّيه بالمعلومة المهمة والجديدة، مضاف إليها صورة الفيديو، وبدون هذا المركز سيفقد التلفزيون الكثير من الحضور والتأثير والفاعلية والمصداقية والوثوقية. ومن أجل أن يأتي هذا المركز ملبياً للطموحات فلا بد أن يتم دعمه بالكفاءات المتخصصة في مجال المعلوماتية حفظاً وتوثيقاً وأرشفة واستدعاءً للمعلومة بالسرعة الممكنة.
ويحظرني في هذا السياق قصة كان بطلها الصحفي اللبناني الشهير سليم اللوزي رئيس تحرير مجلة الحوادث اللبنانية في عصرها الذهبي، فقد أجرى حواراً مع الرئيس المصري الراحل أنور السادات، وكان مما لفت نظر السادات حداثة وغزارة المعلومات التي ينطلق منها اللوزي في حواره معه، مما جعله يطلب من اللوزي أن يتم تزويد الرئاسة المصرية بجزء من مركز المعلومات الذي تملكه مجلة الحوادث، وهي المعلومات المهمة لصانع القرار السياسي وكذلك لصانع القرار الإعلامي.
وهذا المركز ليس بدعاً أو أمراً جديداً، فهو أمر معمول به في المؤسسات الإعلامية العريقة، ويأتي في مقدمتها: هيئة الإذاعة البريطانية الـBBC على المستوى العالمي وعلى المستوى العربي، إضافة إلى الحوادث يأتي مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية الموجود في جريدة الأهرام المصرية كأحد المراكز المهمة في هذا المجال.
ويحتاج هذا المركز بشكل مختصر إلى خبرات متخصصة في هذا المجال، كما يحتاج إلى توفير الأجهزة الحديثة التي تساعد في توفير المعلومة المطلوبة وبالسرعة اللازمة مواكبة للأحداث السريعة، وبدونها لن يكون لوجوده أهمية.
* التخطيط:
وفي هذا السياق أعتقد أن التلفزيون لا بد وأن يعمل وفق خطتين إحداهما عاجلة والأخرى طويلة المدى.
أما العاجلة: فإنه مطلوب أن يعمل التلفزيون في البدء على إدخال تطوير تدريجي وسريع وفاعل على برامجه، بحيث يبدأ الجمهور بملاحظة ذلك سريعاً، فليس الجمهور معنياً بظروفك ولا بمشاكلك؛ فهو يريد أن يشاهد تلفزيوناً مقنعاً، بصرف النظر عن كل المبررات والأعذار.
أما الخطة طويلة المدى:
فأعتقد أنها تتطلب عمل تفاصيل وأسس وأساليب ومناهج لا بد وأن يستغرق تنفيذها حيزاً من الزمن، يبدأ - وهو الأهم - بتدريب موظفي التلفزيون على أحدث المناهج العلمية والفنية، فضلاً عن تحديث وتطوير الأجهزة الفنية.
أخيراً..، فالإعلام اليوم وخاصة المرئي منه، عبارة عن صناعة ضخمة ومكلفة، وتحتاج بالتالي إلى الصرف المالي الكثير على قائمة البرامج والدراما بشكل سخي، بحيث يمكن للتلفزيون أن يقدم منتجاً تلفزيونياً عصرياً واحترافياً مستوفياً كل الشروط الفنية والتسويقية، وهو ما سيغري المشاهد بالمتابعة، ومن ثم سوف تحرص الشركات بالإعلان في هذه البرامج طالما اقتنعت بأنها برامج مشاهدة بشكل كبير، فالعملية مترابطة بشكل وثيق: تقديم منتج تلفزيوني جيد، يليه إقبال جماهيري كبير، ثم يتبعه بعد ذلك ويتلقفه الإعلان.
هي إذاً دائرة متكاملة، وأي ضعف في أحد عناصرها سوف يؤثر حتماً بدوره سلباً على بقية العناصر الأخرى.
وبعد هذا كله...
هل يمكن القول أن الوضع أصبح صعباً ومستحيلاً؟ نعم هو صعب لكنه ليس بمستحيل متى ما توفرت الإرادة والرغبة والقرار والخطة المناسبة، ولأننا نثق بالوزير الشاب الدكتور عادل الطريفي، فلا مستحيل بمشيئة الله.