عبدالرحمن بن محمد بن إبراهيم الريس ">
الشدائد والفتن والابتلاءات سُنةٌ إلهية يقدِّرها الله تعالى على الأفراد والأُمم، فالفرد يُبتلى، والأُمم تُبتلى، ولا تَسير الحياة على وتيرة واحدة، هكذا الدنيا لا تصفو لأحد، ولا تدوم فيها سعادة لأحد، كما لا يدوم فيها حزن، دار شقاء وابتلاء، الرابح فيها من جنى فيها الثمار لحياته الحقيقية ... الآخرة.! قال الله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) [البلد: 4]، وقال تعالى: (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ )[آل عمران: 141].
ولا يَخفى على كلِّ مسلم ما تمرُّ به بلادنا وأُمتنا العربية والإسلامية في هذه الأيام، من إعادة هيبة وعصر جديد أسأل الله تعالى أن يبارك بهذه الجهود، وأن يُكَلِّلها بالتوفيق والسداد.
ولا شك أن هذه المرحلة هي مرحلة ابتلاء وشدة يتم بعدها النصر والتمكين - بإذن الله -، وسأتكلم في هذه المقالة بشكل مختصر عن موقف المسلم عند الشدائد والفتن والابتلاءات؟
1- الالتجاء إلى الله تعالى هو مِفتاح الفرج:
فتستشعر بقلبك أنك محتاج إلى ربك في كل وقت، فتلجأ إلى الله - تبارك وتعالى - وحده دون سواه فهو سبحانه القادر على تغيير الحال، والخروج بك إلى اليُسر بعد العسر، والفرَج بعد الشدة، قال الله تعالى: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) [النمل: 62].
2- الدعاء:
وهو سلاح المؤمن، ولهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بدرٍ ضرب أروع الأمثلة في استخدام هذا السلاح القوي، فكان - صلى الله عليه وسلم - يُكثر الابتهال والتضرُّع إلى الله تبارك وتعالى ويقول: ((اللهم أنجِز لي ما وعَدتني، اللهم نصرك))، ويرفع يديه إلى السماء حتى سقَط رداؤه عن مَنْكِبيه، وجعل أبو بكر يَلتزمه من ورائه، ويُسوِّي عليه رداءَه، ويقول - مشفقًا عليه من كثرة الابتهال -: «يا رسول الله، كفاك مُناشدتك ربَّك، فإنه سيُنجز لك ما وعدَك».
وفي موقف آخر للنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الطائف، وكان يوم ابتلاءٍ عظيم وفتنة كبيرة، فأخذ - صلى الله عليه وسلم - يناجي ربَّه ويخاطبه بقوله: ((اللهم إليك أشكو ضَعف قوَّتي، وقلة حِيلتي، وهواني على الناس، أنت أرحم الراحمين، أنت ربُّ المستضعفين وأنت ربي، إلى مَن تَكِلني؟ إلى بعيد يتجهَّمني، أم إلى عدوٍّ ملَّكته أمري؟ إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ، فلا أُبالي، غير أنّ عافيتك هي أوسع لي! أعوذ بنور وجهك الذي أشرَقت له الظلمات، وصلَح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحلَّ عليَّ غضبك، أو يَنزل بي سَخطك، لك العُتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلاّ بك)).
3- العبادة والعمل الصالح:
إذا كثُرت الفتن، يُقبل الإنسان على العبادة؛ كما جاء في صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((العبادة في الهرَج - وفي رواية: في الفتنة - كهجرة إليَّ))؛ يعني بذلك أن لها ميزة وفضلاً وأجرًا عظيمًا في أوقات الفتن.
يقول الحافظ ابن رجب - رحمه الله - معلقًا على هذا الحديث: «وسبب ذلك أنّ الناس في زمن الفتن يتَّبعون أهواءهم، ولا يرجعون إلى دينٍ، فيكون حالهم شبيهًا بحال الجاهلية، فإذا انفرَد من بينهم مَن يتمسَّك بدينه، ويعبد ربَّه، ويتَّبع مراضيَه، ويَجتنب مساخطَه، كان بمنزلة مَن هاجَر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مؤمنًا به، متَّبعًا لأوامره، مُجتنباً لنواهيه»؛ أ. هـ.
ونبينا الكريم - صلوات الله وسلامه عليه - كان إذا حزَبه أمرٌ، هُرِع وفَزِع إلى الصلاة.
4- الأمل والتفاؤل وحُسن الظن بالله عزّ وجلّ:
مهما ادْلهمَّت الخُطوب، وحصل ما حصل من الشدائد والفتن والابتلاءات يبقى الأمل والتفاؤل وحسن الظن بالله عزّ وجلّ من أعظم الأمور، بل من أهم الصفات التي يجب على المسلم أن يتصف بها وقت الشدائد والفتن والابتلاءات.
ولنقتدي بنبيُّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد اجتمع عليه الأحزاب من كلِّ مكان، ولكنه لم يَيأس ولم يَقنَط، وكان واثقاً من نصر الله له، وكان يُبشِّر - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه، فيقول حينما عجَز أصحابه عن كسْر الصخرة، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخذ المِعْول، ثم ضرب الصخرة ضربة صدعتها، وتطاير منها شررٌ أضاء خَلل هذا الجو الداكن، وكبَّر - صلى الله عليه وسلم - تكبير فتحٍ، وكبَّر المسلمون، ثم ضربها الثانية فكذلك، ثم الثالثة فكذلك، فتفتَّتت الصخرة، ونظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى صحْبه، فقال: ((أضاء لي في الأولى قصور الحِيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أُمتي ظاهرة عليها، وفي الثانية أضاء القصور الحُمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أُمتي ظاهرة عليها، وأضاء لي في الثالثة قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أُمتي ظاهرة عليها؛ فأبشِروا))، فاستبشَر المسلمون وقالوا: الحمد لله، موعود صادق، (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) [الأحزاب: 22].
وأيضاً لَمَّا اشتدَّت ضَراوة قريش بالمستضعفين، ذهَب - خبَّاب بن الأرَتِّ - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستنجد به، قال خبَّاب: شكونا إلى رسول الله وهو متوسِّد بُرده في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تَستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: ((قد كان من قبلكم يُؤخذ الرجل، فيُحفر له في الأرض، فيُجعل فيها، ثم يُؤتى بالمِنشار، فيُوضع على رأسه، فيُجعل نصفين، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظْمه، ما يصدُّه ذلك عن دينه، والله ليُتِمَّنَّ الله تعالى هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا اللهَ والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)).
5- تغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة:
وقت الفتن والشدائد، لا بد من تغليب المصالح العامة على المصالح الخاصة، ومن ذلك ما حصل للنبي - صلى الله عليه وسلم - في صلح الحديبية، حينما جاءه وفدٌ من قريش لعمل الصلح والهُدنة، ورضِي النبي - صلى الله عليه وسلم - بشروط قريش المُجحفة؛ مثل: مَن أسلَم من المشركين، فليَرجع إليهم، ومَن ارتَدَّ من المسلمين، فلا يرجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم. - ولكنه - صلى الله عليه وسلم - فضَّل المصلحة العامة للدعوة على المصلحة الخاصة، فكان هذا الصلح فتحًا؛ كما سمَّاه الله - تبارك وتعالى -: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) [الفتح: 1].
والصحابة - رضوان الله عليهم - حزِنوا حزنًا شديدًا بهذا الصلح، حتى رُوِي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ألستَ برسول الله؟ قال: ((بلى))، قال: أوَ لسنا بالمسلمين؟ قال: ((بلى))، قال: أوَ ليسوا بالمشركين؟ قال: ((بلى))، قال: فعلامَ نعطي الدنيَّة في ديننا؟ قال: ((أنا عبد الله ورسوله، ولن أُخالف أمره، ولن يُضيِّعني)). ثم ذهب عمر إلى أبي بكر رضي الله عنه، فرد عليه أبو بكر بمثل رد النبي صلى الله عليه وسلم لعمر تماماً، فكان رد أبي بكر موافقاً لرد النبي صلى الله عليه وسلم.
فلمَّا فرَغ النبي - صلى الله عليه وسلم - من قضية الكتاب والصلح، قال لهم: ((قوموا فانحروا، ثم احلِقوا)) - ليتحلَّلوا من عُمرتهم، ويعودوا إلى المدينة - فلم يقم منهم رجل! حتى قال ذلك ثلاث مرات! فلم يقمْ منهم أحد، فدخل - صلى الله عليه وسلم - على أمِّ سلَمة، فذكَر لها ما لقِي من الناس، فقالت أم سلمة: يا رسول الله، أتحب ذلك؟ اخرُج، ثم لا تكلِّم أحدًا منهم كلمة، حتى تَنحر بُدْنَك، وتدعو حالقك فيَحلقك، فخرج، فلم يكلِّم أحدًا منهم، حتى فعل ذلك، فلما رأى المسلمون ما فعل الرسول، زال عنهم الذهول، وأحسُّوا خطر المعصية لأمْره، فقاموا عجِلين يَنحرون هَدْيهم، ويَحلق بعضهم بعضًا، رضي الله عنهم أجمعين.
وكثير من المؤرِّخين يَعد صلح الحديبية فتحًا، قال ابن هشام: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الحديبية في ألف وأربعمائة، ثم خرج عام فتح مكة - بعد ذلك بسنتين - في عشرة آلاف.
وهكذا غلَّب النبي - صلى الله عليه وسلم - المصلحة العامة على المصلحة الخاصة في وقت فتنة كبرى أصابت المسلمين، فتحوَّلت المِحنة إلى مِنحة، والعسر إلى يُسر، والشدة إلى فرَجٍ، والهزيمة إلى فتحٍ ونصر.
أخيراً: أوصي نفسي وإياكم بالرجوع إلى العلماء الربانيين المعتبرين في كل وقت، وفي وقت الشدائد والفتن خاصة، وكذلك لزوم جماعة المسلمين وإمامهم.
أسأل الله تعالى أن يحمينا جميعاً من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يحفظ علينا ديننا وأمننا وإيماننا وقادتنا ووحدتنا، وأن يردّ عنا كيد الكائدين وحسد الحاسدين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
- جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية