إن المتطلع للمشاريع الناجحة يجد أن بذرتها كانت نتاج بضع أفرادٍ بذلوا جهوداً كبيرة في توظيف مهاراتهم ومعرفتهم عبر عشرات من السنين مع الحظ الوافر، وإن شئت فقلْ التوفيق الإلهي لتظهر الشركات العائلية بعد عزمهم حصر ثمرة جهدهم ضمن أُسرهم بهيكلة تلك المشاريع البسيطة وقت النشوء ضمن شركة عائلية مغلقة.
وهذا في الواقع يُعد أمراً طبيعياً ويعكس غريزة التملُّك وتوريث المال والجهد والأسماء اللامعة للأبناء والأحفاد، والإنسان بطبيعته يبذل جهداً مضاعفاً، ويصبح خلاّقاً ومبدعاً إذا ما اقترن جهده بالنفع العائد إلى شخصه وأسرته، ويكون حريصاً كل الحرص على دفع كل ما يلوّث هذه السمعة أو يُوصمها بالنقص، وهي لصيق اسمه ومحل إرثه. وتبعاً لتطور الحال تحوّل عددٌ منها لشركات مساهمه سواء بقناعة ملاّكها أو بضغوط السوق أو لمصلحة عامة، وأياً كان الحال، فالشركة المساهمة تختلف جذرياً في تكوينها الثقافي ودوافع النجاح عنها في الشركة العائلية، ولسنا في صدد التفريق وإظهار مزايا إحداهما عن الأخرى، ولكن من الملاحظ أن عدداً من الشركات العائلية انتهت بعد أمد طويل من النجاح وتحقيق الأرباح الهائلة إلى نقيض ذلك من الفشل والإفلاس، ما هي أسباب فشل الشركات العائلية؟.. هذا التساؤل قد أُجيب عنه بعشرات الدراسات وكثير من أوراق العمل، ولكني سأحصر مقالتي في سببين اثنين، وبذلك فهو مكمل ويفتقر إلى ما سواه من الآراء المدروسة والمنشورة ولو على سبيل النقد.
يكمن السبب الأول في قصور حكمة الكهل المؤسس عن المنظور.. والثاني في تجاوز حكمته على المأمول.
السبب الأول، وهو القصور في غياب الوعي عن الذات وإهمال الثقافة المحلية. الأب الأول للمشروع والعائلة معاً كان شخصاً ينتمي للأرض التي تربى عليها ونهل من مدرسة الحياة فيها، لم يحمل الشهادات بل هو بذاته يُعد جامعة تستحق أن تمنح الآخرين أعلى الرتب العلمية شريطة أن تكون صلاحيتها داخل الحدود الجغرافية التي انحصر ضمنها نجاحه الفعلي (ثقافة السوق)، ولكنه حين كبر غفل عن ذاته، وأراد لحوق أبنائه أسوة بباقي الأسر التي لم يحظ كهولها بالحكمة التي هو عليها ولا بحظه، خانه مجالسة القوم وهم رفاقه وحساده، بعث بصغاره ضمن من ابتعث للخارج لدراسة إدارة الأعمال، كانت دراسة الأبناء على حساب الثقافة المحلية لتطلعه إلى الوهيج الذي تصدره الشهادات العالمية المزدانة داخل إطارات مذهبة تعلو صدور المكاتب والمجالس الفاخرة، يا لخداع الغرب؛ أليس الأولى أن تكون شهاداتهم لها صلاحية ضمن حدودهم الجغرافية!.. دعونا من ذلك فهو موضوع آخر قد نتناوله في مقالة أخرى.. ولكن أليس هذا تحديداً ما أراده الكهل الحكيم حين غفل عن ذاته، وما تحمله من حكمة قادته وأسرته إلى ثراء وسمعة، ونسي في غمار انشغاله أن يمنح لصغاره من نهيل حكمته وتجاربه، هي سُميت حكمة لأنها لا تصدر وهيجاً بذاتها، بل الوهيج يصدر عن نتاجها، إن الناظر والمتمعن إلى الشركات العائلية التي أمسك بزمامها الجيل الثاني الحاملي لشهادات مثل MBA من الجامعات الغربية أو حتى المحلية التي استوردت الطبعات العالمية لمناهج الجامعات الغربية وأساتذة، وإن ارتدوا أشمغة دون أن يكون لهم لمسة خاصة بهم لفقر الدراسات المحلية وانعدام الرغبة في الابتكار أو عدم القدرة على استخلاص تجارب الآباء أو ريادة الأعمال Entrepreneurs، تولي هؤلاء الأبناء أعلى المناصب الإدارية في شركات آبائهم بالقفز لا الصعود ولو كان تسلُّقاً، فأصبحوا ركيزة تحوِّر مسار تلكم الشركات إلى الإفلاس؛ والسبب في ذلك أن هؤلاء الأبناء نهلوا من معين حضارة وبلد غير ثقافتهم، فهم كمن ذهب لدراسة القانون الأمريكي وعاد ليطبق مبادئه أمام المحاكم الشرعية المحلية، لا تستغرب أن بذر منه تسخط على الوضع المحلي بسبب اصطدامه بالواقع الذي باشر العمل فيه، فليس لنقص أو عيب فيها أو حتى فيه، ولكن لم يلمس ما ألف التكيُّف عليه وتلقاه تعليماً ضمن مفاصله ودهاليز محاكمه، وكذا دارس إدارة الأعمال فقد خبرَ السوق الأمريكية مثلاً ومتطلباتها، وفاته فهم السوالمحلية بذائقتها ومكامن الفرص فيها، أليس الهدف النهائي من دراسة MBA هو تحقيق الربح وديمومة الشركات؟.. للأسف فإن التشدق براطنة أجنبية والإلمام بثقافة واسعة حول الأسواق العالمية والفرص المتاحة في سوق ناسدك و... إلخ، هو كالمثقف تستمتع بثرثرته حول مائدة عشاء فاخر في أعلى برج وسط عجاج الرياض، ولكن حين تقف في وسط الصحراء، وقد نفد وقود مركبتك، فإن السماع لثرثرته يكون امتحاناً قاسياً في ضبط النفس، ويكون رؤية بدوي عابر قد حفر الزمن أخاديد في سحنته كانبعاث الماء لصائم في يوم وحر.
يكمن تصور خلاصة ما سبق وما يلحق في الجزء الثاني، خصوصاً في متابعة فيلم «مرجان أحمد مرجان»، فالمشاهد يلحظ شخصية لا تحمل الدرجات العلمية، بل هي أقرب للشخص المتوسط في تعليمه، وهي إضافة إلى ذلك مليئة بالمتناقضات الأخلاقية إلا كون ميزتها أنها واقعية جداً، وهي في مزيج تكوينها المشوه تعطي جمالاً وتفرض إعجاباً، لأنها وبمنتهى البساطة تحقق النتيجة المتوخاة من شخصية رجل الأعمال.
لقمان سيف الرحمن الدهلوي - قانوني - هيئة السوق المالية
dahlawil@gmail.com